|
|
السؤال 8 الى 15 |
|
السؤال الثامن
من هو المهدي ولماذا تنتظرونه ؟
الجواب :
ممّا اتّفقت عليه الشرائع السماوية هو مجيء المصلح العالمي في آخر الزمان ، وهذا ما يعتقد به النصارى واليهود فضلاً عن المسلمين، والجميع في حال انتظار هذا العادل الذي سيملأ الأرض عدلاً . وبمراجعة كتب العهد القديم والعهد الجديد تتضح هذه الحقيقة بشكل أكثر[1]
وفي هذا المضمار روى المحدثون عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قوله:
«لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً»[2]
فهذا المصلح الذي ينتظره الجميع مما اتّفقت عليه الأديان المختلفة ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ كما وردت فيه روايات كثيرة من طرق الفريقين بل في صحاح ومسانيد أهل السنة روايات كثيرة في حقه، وقد حرر جملة من المؤلّفين والمحققين كتباً ورسائل كثيرة تعنى به[3]
وقد ذكرت هذه الروايات أوصافه بنحو بحيث تنطبق بدقّة على الثاني عشر من أئمة أهل البيت وهو المهدي ابن الإمام الحسن العسكري(عليهما السلام) [4] ، ففي هذه الروايات أنّ اسمه كاسم النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، و أنّه الوصي الثاني عشر ، و أنّه من ذرّية الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام) .
هذا ، وقد ولد المهدي (عليه السلام) في السنة 255 بعد الهجرة ، ولا زال حيّاً ، يعيش بيننا لكننا لا نعرفه . علماً أنّ طول عمره بهذا المقدار لا ينافي شيئاً مما ثبت علمياً ، ولا شيئاً مما ثبت بالنقل . بل يحاول العلم في يومنا هذا إطالة العمر الطبيعي للإنسان ، ويرى أنّه ممكن إذا ما أمكن الحدّ من تأثير بعض العوامل الدخيلة في إلحاق الضرر بالانسان . ومن جانب آخر فقد ذكر التأريخ أسماء جملة من المعمّرين ، بل إنّ القرآن الكريم صرّح بذلك حيث قال في شأن نوح(عليه السلام) :
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إِلاّ خَمْسِينَ عامًا [5]
وقال في شأن يونس(عليه السلام) :
)فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِين (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [6]
كما أنّ الخضر وعيسى(عليهما السلام) ـ من خلال الرؤية القرآنيّة ـ أحياء فعلاً ، بل عليه اتّفاق جميع المسلمين .
السؤال التاسع
إن كانت الشيعة على حقّ فلماذا هم أقلّية بين المسلمين ؟
الجواب :
لا يمكن معرفة الحق وتمييزه عن الباطل من خلال كثرة الاتباع وقلّتهم ، فنسبة المسلمين إلى غيرهم في عصرنا الحاضر هي حدود الخمس أو السدس ، كما تشكّل أكثرية الشرق الأقصى عَبَدة الأوثان وعَبَدة الأبقار وغيرهما من منكري ما وراء المادة .
كما أنّ نفوس الصين التي تجاوزت المليار نسمة تتشكّل من الشيوعيين الملحدين . وكذا فإنّ نفوس الهند التي هي حدود المليار نسمة تتشكّل من الهندوس وعَبَدة الأوثان .
كما لا تعدّ الأكثرية علامة للحق ، بل إنّ القرآن الكريم ذمّ الأكثرية في أغلب الأحيان ، ومدح الأقلّية في مواضع عديدة ، وإليك نموذجاً من تلك الآيات :
1ـ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [7]
2ـ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [8] [9]
3ـ وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [10]
وعليه فينبغي للإنسان الطالب للحقّ أن لا يترك عقيدته لقلّة الأتباع ، كما لا ينبغي أن يباهي الآخرين بكثرة الأتباع ، وإنما اللازم عليه أن يستنير بنور عقله في معرفة الحقّ من الباطل .
ولهذا قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للحرث بن حوط الليثي عندما سأله عن كثرة مخالفيه في حرب الجمل ، فقال : أترى أن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل ؟ ! فقال علي(عليه السلام) :
«يا حار ، أنت ملبوس عليك ، إنّ الحقّ والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال ، وبأعمال الظن ، اعرف الحق تعرف أهله ، واعرف الباطل تعرف أهله» [11]
فيجب على المسلم أن يبحث المسألة بحثاً علمياً ، ويحلّلها تحليلاً منطقياً ، ويجعل مشعل هدايته قوله تعالى :
وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [12]
ومع الغض عن ذلك كلّه فإن الشيعة وإن كانوا لا يساوون أهل السنّة عدداً ، لكن إذا ما اُجريت إحصائية سكانية لنفوس المسلمين فإنّه سيتبين أنّ نسبتهم إلى جميع المسلمين هي الربع ، و أنّهم يسكنون في أغلب المناطق التي يسكنها المسلمون في بقاع العالم المختلفة . وقد عاش ـ على مرّ العصور ـ جملة من العلماء والكتّاب المعروفين والذين لهم كتب معروفة بين الشيعة .
من الجدير بالذكر أنّ المؤسس لجملة من العلوم هم من الشيعة ، ومنهم :
أبو الأسود الدؤلي (مؤسس علم النحو) .
الخليل بن أحمد الفراهيدي (مؤسس علم العروض) .
معاذ بن مسلم بن أبي سارة (مؤسس علم الصرف) .
أبو عبد الله محمد بن عمران الكاتب الخراساني (أحد المقدّمين في علم البلاغة) .
وللاطلاع على التآليف الكثيرة لعلماء الشيعة والتي يعسر إحصاؤها راجع كتاب «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» ، وللتعرّف على الشخصيات والوجوه الشيعية المعروفة راجع كتاب «أعيان الشيعة» ، ولمعرفة تأريخ الشيعة الميمون راجع كتاب «تاريخ الشيعة» .
السؤال العاشر
ما هي الرجعة ، ولماذا تعتقدون بها ؟
الجواب :
في اللغة : «الرَّجْعة : الرجوع» ، وفي الاصطلاح : «رجوع جمع من الناس بعد الموت وقبل يوم القيامة إلى الحياة الدنيا» وتحصل عند ظهور الإمام المهديّ(عليه السلام) ، وهذه الرجعة لا تنافي العقل ولا النقل . فنجد أنّ حقيقة الإنسان ـ في الرؤية الإسلامية والشرائع السماوية الاُخرى ـ هي روحه ، والتي قد يعبّر عنها بالنفس أيضاً ، ولا تفنى هذه الروح بفناء البدن ، بل تبقى حيّة ، وتدوم حياتها الخالدة .
ومن جانب آخر فإن الباري سبحانه وتعالى ـ وكما يصرح الكتاب العزيز ـ قادر مطلق ، وليس لقدرته حدّ تنتهي إليه .
فتبيّن من خلال هاتين المقدّمتين أنّ الرجعة ممكنة عقلاً ، وذلك أنّ العقل إذا تأمّل قليلاً أذعن أنّ الرجعة أسهل بكثير من أصل الخلقة ، فالباري سبحانه الذي ابتدع وفطر الخلائق من العدم قادر على إرجاعهم بلا ريب .
و أما من اُفق النقل ، فيمكن أن نرى نماذج من الرجعة في الاُمم السالفة ، حيث يصرح القرآن الكريم في هذا المجال بقوله :
وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [13]
وقال في موضع آخر عن لسان عيسى(عليه السلام) :
وَ أُحْيِي الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ [14]
بل إنّ القرآن الكريم مضافاً إلى تصريحه بإمكان الرجعة ، يؤيد وقوعها في اُناس ماتوا ، فذكر في آيتين رجوع أقوام إلى الدنيا بعد رحلتهم عنها وقبل يوم القيامة ، والآيتان هما :
وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دابَّةً مِنَ الاَْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّة فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ [15]
ولنذكر مقدمة ليتّضح الاستدلال بالآيتين الشريفتين على الرجعة قبل يوم القيامة ، وهي من أمرين :
1ـ قال المفسّرون إنّ الآيتين الكريمتين تتحدّثان حول يوم القيامة ، و أنّ الآية الاُولى تبيّن أحد العلائم التي تكون قبل يوم القيامة ، كما يقول جلال الدين السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» ، حيث أخرج عن ابن أبي شيبة عن حذيفة قال :
«تخرج الدابة مرتين قبل يوم القيامة ...»[16]
2ـ لا ريب أنّه في يوم القيامة يحشر الناس جميعاً ، لا طائفة معينة من كلّ اُمّة ، ولهذا تقول الآية الكريمة :
ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ [17] [18]
وقال في موضع آخر :
وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الاَْرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [19]
وعليه فإن الناس جميعاً محشورون يوم القيامة ، ولا يختصّ الحشر بقوم دون آخرين .
3ـ إنّ الآية الثانية من الآيتين المذكورتين تصرّح بأنه يوجد حشرٌ لقوم معيّنين دون عموم الناس حيث تقول :
) وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّة فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ( .
وهي صريحة في عدم حشر جميع الناس .
النتيجة :
اتضح جيداً من هذه المقدمات الثلاث أنّ حشر جمع خاصّ من الناس وهم المكذّبون بآيات الله ـ كما صرحت به الآية الكريمة ـ سيكون قبل يوم القيامة; وذلك أنّ الحشر في القيامة سيعمّ الجميع بلا ريب ، ولا يختصّ بقوم دون آخرين .
وبهذا البيان اتّضح أنّه سترجع طائفة من الناس بعد الموت وقبل القيامة إلى هذه الحياة الدنيا ، وهي الرجعة التي نقول بها .
ومن هنا نجد أنّ أهل البيت (عليهم السلام) ـ والذين هم قرين القرآن الكريم والمفسّرين للكتاب العزيز ـ بيّنوا ذلك بوضوح . ورعاية للاختصار ننقل إليك نموذجين من كلماتهم في هذا المجال :
«العطار ، عن سعد ، عن ابن يزيد ، عن محمد بن الحسن الميثمي ، عن مثنى الحناط قال : سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول : أيام الله ثلاثة : يوم يقوم القائم ، ويوم الكرّة ، ويوم القيامة» [20]
وقال الصادق (عليه السلام) :
«ليس منّا من لم يؤمن بكرّتنا» [21] .
ومن المناسب للمقام ذكر الأمرين التاليين :
1ـ فلسفة الرجعة
عند التأمّل في أهداف الرجعة نجد أنّ من أهدافها ما يلي :
1ـ لبيان عظمة الإسلام الحقيقي ، وإبراز خور الكفر .
2ـ لجزاء المؤمنين والمحسنين ، وعقوبة الكافرين والظالمين .
2ـ الفرق الجوهري بين الرجعة و التناسخ
تجب الإشارة إلى أنّ الاعتقاد بالرجعة ـ في عقيدة الشيعة ـ لا يلازم الاعتقاد بالتناسخ ; وذلك أنّ أساس القول بالتناسخ مبنيّ على إنكار القيامة ، و أنّ العالم في حالة تكرار مستمرّة ، فكلّ جيل ينسخ الجيل السابق عليه ، وهكذا . وعلى أساس هذا النظريّة ترجع الروح الانسانية بعد الموت إلى هذا العالم وتحلّ في بدن آخر ، فإن كانت الروح روح صالح انتقلت إلى بدن يريحها بالسيرة والأعمال ، وإن كانت الروح روح كافر انتقلت إلى بدن يؤذيها بالسيرة والأعمال ، وهذا الرجوع بمنزلة الحساب لها .
و أما القائلين بالرجعة فهم يعتقدون بوجود الحساب والقيامة ; تبعاً للشريعة المقدّسة . ومن جانب آخر فإنّهم يعتقدون باستحالة انتقال الروح المنفصلة عن بدن معيّن إلى بدن آخر . وإنما يعتقدون رجوع جمع من الناس إلى الحياة الدنيا بعد الموت وقبل يوم القيامة .
السؤال الحادي عشر
ما هي الشفاعة التي تعتقدون بها ؟
الجواب :
الشفاعة من الاُصول الإسلامية المسلّمة ، والتي تلقّتها جميع الفرق الإسلامية بالقبول; تبعاً للوارد في الآيات الكريمة والروايات الشريفة . نعم اختلفوا في آثارها .
وحقيقة الشفاعة أن يطلب الإنسان الوجيه عند الله المغفرةَ للمذنب من الباري سبحانه ، أو يطلب منه علوّ الدرجات لشخص آخر . قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) :
«اُعطيت خمساً... واُعطيتُ الشفاعةَ فادّخرتُها لاُمَّتي فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً» [22]
تقييد الشفاعة
الذي يرى الشفاعة من اُفق القرآن يجد أنّها بمعناها المطلق ومن دون أي قيد مردودةٌ ، و أنّ الشفاعة المؤثرة هي ما كانت بالصفة التالية :
1ـ أن يكون الشفيع مأذوناً في الشفاعة من الله سبحانه ، فلا يجدي القرب لوحده ، وإنما يجب أن يكون مأذوناً في الشفاعة أيضاً ، قال تعالى :
يَوْمَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ
لَهُ
قَوْلاً [23]
2ـ أن يكون للمشفوع له استعداد لقبول الفيض الإلهيّ الوارد عليه بواسطة الشفيع ; بمعنى أن لا ينقطع ارتباطه الإيماني بالباري سبحانه ، بل يبقى محفوظاً . وعليه فلا شفاعة للكافر ، ولا لبعض المسلمين كتارك الصلاة وقاتل النفس المحترمة ظلماً ; وذلك أنّ هؤلاء قطعوا صِلتهم الروحية بالباري سبحانه ، قال سبحانه في حقّ تاركي الصلاة والمنكرين ليوم الدين :
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ [24]
وقال في حق الظالمين :
ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيم وَ لا شَفِيع يُطاعُ [25]
فلسفة الشفاعة
الشفاعة كالتوبة ، نافذة يدخل منها شعاع الأمل لقلوب المذنبين الذين أحسّوا باشتباههم أثناء السير والسلوك إلى الله ، حيث تكون داعياً لترك المعاصي ; حيث أنّهم يعلمون أنّ الشفاعة باب مفتوح أمامهم ضمن شرائط خاصّة ، لا مطلقاً ، فيمكنهم ولوج هذا الباب والنجاة من العذاب إذا ما راعوا تلك الشرائط ، فيحاولون أن لا يتجاوزوا تلك الحدود لئلاّ تفوتهم الشفاعة .
أثر الشفاعة
اختلف المفسرون في أثر الشفاعة ; وهل أنّها تفيد غفران الذنوب ، أم رفع الدرجات؟ الذي يتراءى لنا من خلال قول النبي(صلى الله عليه وآله) هو الرأي الأول لقوله (صلى الله عليه وآله):
«إنّ شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من اُمّتي» [26]
السؤال الثاني عشر
هل طلب الشفاعة من الشفعاء شركٌ بالله ؟
توضيحه : قد يقال : إنّ الشفاعة من شؤون الباري جلّ وعلا المخصوصة به ، لقوله عزّ اسمه :
قُلْ لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا [27]
وعليه فالشفاعة طلبٌ لما هو مخصوص بالباري من غيره سبحانه وهم عبيده ، والطلب الذي يتّسم بهذه السمة نوع عبادة لغير الله ، وهو ينافي التوحيد في العبادة لله سبحانه وتعالى .
الجواب :
المقصود من الشرك هنا ليس هو الشرك في الذات ، ولا الشرك في الخلق ، ولا الشرك في التدبير ، وإنما المقصود هو الشرك في العبادة . وعليه فبيان الجواب يعتمد على تفسير وفهم معنى العبادة بالدقّة .
ثم إنّ تفسير العبادة لا يرجع إلينا ، كي نعتبر الخضوع لكلّ مخلوق أو الطلب منه عبادة .
هذا ، والقرآن الكريم يصرّح بأنّ الملائكة سجدت لآدم ، قال تعالى :
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29 (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [28]
فسجود الملائكة لآدم(عليه السلام) بأمر الله سبحانه ، ليس عبادة له ; وإلاّ لما أمر الباري سبحانه به .
كما سجد يعقوب (عليه السلام) و أولاده ليوسف (عليه السلام) ، على ما أفصح به الذكر الحكيم حيث قال :
وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [29]
فإذا كان هذا الخضوع عبادة ليوسف(عليه السلام) لما فعله النبيّ يعقوب(عليه السلام) ، والذي يتحلّى بالعصمة ! بل لو كان هذا الخضوع عبادة ليوسف لما ارتضاه من أولاده أيضاً . كلّ ذلك مع أنّنا لا نجد خضوعاً أشدّ من السجود .
فعلى هذا يجب التفريق بين مفهوم الخضوع والطلب من الآخرين وبين مفهوم العبادة ، فحقيقة العبادة أن يعتقد الإنسان الالوهية لمخلوق معيّن ، ويعبده ، أو أن يعتقد أنّ الأفعال الإلهية ـ كتدبير العالم وغفران الذنوب ـ مفوّضة لمخلوق معيّن . و أما إذا كان الخضوع للمخلوق من دون أن نعتقد فيه الالوهية ، ومن دون أن نعتقد تفويض الشؤون الإلهيّة إليه ، فليس هذا عبادة ، بل هو مجرّد احترام له ; نظير احترام الملائكة لآدم ، واحترام يعقوب ليوسف(عليهما السلام) .
وفي مقام الجواب عن السؤال نقول : إذا اعتقدنا أنّ الشفاعة مفوّضة للشفعاء ، و أنّهم يشفعون لمن يريدون من دون أي قيد أو شرط ، وهم السبب في مغفرة ذنوبهم ، فهذا شرك ; لأنّنا طلبنا ما هو لله من غيره . و أمّا إذا اعتقدنا أنّ بعض عباد الله الصالحين مجازون بالشفاعة للمذنبين ضمن اطار وحدود معينة والتي من أهمها رضا الله سبحانه ، فهذا لا يلازم الاعتقاد باُلوهية هذا الشافع الصالح كما هو واضح ، كما لا يلازم تفويض شأن الهي إليه ، بل هو طلب ممن هو أهل لذلك .
ولهذا نجد أنّ المذنبين على عهد الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) كانوا يأتون إليه لطلب المغفرة ، ومع ذلك لم ينسبهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) للشرك ، ففي سنن ابن ماجة :
«أتدرون ما خيرني ربي الليلة ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم . قال : فإنّه خيّرني بين أن يدخل نصف اُمتي الجنّة ، وبين الشفاعة ، فاخترت الشفاعة . قلنا : يا رسول الله ! ادع الله أن يجعلنا من أهلها . قال : هي لكل مسلم» [30]
فالحديث صريح في طلب الصحابة المغفرة من الرسول(صلى الله عليه وآله) بقولهم : «ادع الله» . كما أنّ الكتاب العزيز يصدع بقوله :
وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْـتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُـولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّابًا رَحِيمًا [31]
وقال في مقام آخر :
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ [32]
وقد أجابهم نبيّ الله يعقوب إلى ذلك ووعدهم أن يستغفر لهم بقوله :
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ُ[33]
السؤال الثالث عشر
هل الاستعانة بغير الله شرك ؟
الجواب :
جميع الناس وجميع الأشياء ـ في النظرة الاسلامية وبنظر العقل ـ محتاجة إلى الله في تأثيرها كحاجته إليه عند بدء الخلقة ، يقول الباري في محكم كتابه :
يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [34]
وقال في موضع آخر :
وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [35]
وعلى هذا الأساس نكرر الآية التالية في كلّ صلاة :
إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [36]
ولإيضاح الجواب عن السؤال المذكور نقول : الاستعانة بغير الله لها صورتان :
1ـ أن نستعين بغير الله مع اعتقاد أنّه مستقلّ عن الباري في أفعاله وغنيّ عنه في إعانته . فهذا الشكل من الاستعانة لا ريب في أنّه شرك بالله سبحانه ، والقرآن الكريم يصف هذا النوع من التصور بفقدانه للأساس وبعده عن الصواب ، حيث يقول :
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيرًا [37]
2ـ أن نستعين بغير الله مع اعتقاد أنّه لا استقلال له عن الحقّ جلّ وعلا ، وإنّما هو محتاج إليه في أفعاله وتأثيراته ، بل إنّ تأثيره في الأشياء إنما هو من جانب الله سبحانه أيضاً ، وقد جعل الله له هذه القدرة والتأثير رفعاً لحاجة العباد .
وعلى أساس هذه النظرة تكون استعانتنا بهذا المخلوق استعانة به بما هو واسطة جعلها الله وسيلة لقضاء حوائج الآخرين . وهذه الاستعانة في حقيقتها استعانة بالله سبحانه ; فهو الذي أفاض عليه الوجود ، و أفاض عليه قدرة التأثير لتأمين حوائج الآخرين ، وذلك أنّ حياة البشر في النشأة الدنيا مبنية على أساس الاستعانة بالأسباب والمسببات ، بحيث لو لم يستعينوا بها اختلّ نظام الحياة .
فإذا نظرنا إليها بما هي عوامل و أسباب لتأثير الباري في الموجودات ، و أنها محتاجة في تأثيرها إلى الباري كحاجتها إليه في أصل وجودها . فهذه الاستعانة لا تنافي التوحيد أبداً .
فالفلاح الموحّد إذا استعان في زراعته بأسباب وعوامل طبيعية نظير التربة والماء والهواء والشمس لنموّ البذور حتى يجني منها محاصيله ، هو في الحقيقة مستعين بالله سبحانه; لأنّه هو المعطي لها هذا الاستعداد والقابلية لإنماء الزرع . وهذه الاستعانة تنسجم تماماً مع التوحيد ولا تنافيه بالمرّة ، بل إنّ القرآن الكريم يوصينا بالاستمداد ببعض الاُمور; كالصبر والصلاة ، في قوله عزّ من قائل :
وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ [38]
ومن الواضح أنّ الصبر والصلاة من أفعال البشر ، ونحن مأمورون بالاستعانة بهما . في الوقت الذي نجد الآية حصرت الاستعانة به سبحانه في قوله تعالى :
إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [39]
ولا تنافي بينهما أصلاً .
السؤال الرابع عشر
هل دعاء ونداء الآخرين من الشرك بالله ؟
الذي أثار هذا التساؤل هو ظاهر بعض الآيات والروايات الناهية عن ذلك ، كقوله تعالى :
وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدًا [40]
وقوله تعالى :
وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ [41]
حيث تمسكت طائفة من الناس بظاهر هذه الآيات وقالوا : إنّ نداء أولياء الله والصالحين ـ بعد رحيلهم عن هذه الدنيا ـ عبادة لهم وشرك بالله العظيم .
الجواب :
لإيضاح الجواب عن السؤال المذكور ينبغي بيان معنى اللفظتين : «الدعاء» و «العبادة» ، فنقول : لا شكّ أنّ لفظ «الدعاء» في اللغة العربية بمعنى النداء والدعوة . ولفظ «العبادة» بمعنى الخضوع الخاص مقابل الإله . ومن هنا فلا يمكن عدّهما مترادفين وبمعنى واحد ; أي لا يمكن القول بأن كلّ نداء ودعاء عبادةٌ ; لأنّه :
1ـ استعملت مادة «دعو» في القرآن الكريم في موارد لا يمكن القول بأن المراد منها هو العبادة ، نظير :
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهارًا [42]
فهل يا ترى يمكن القول بأن مراد نبيّ الله نوح (عليه السلام) أنّه كان يعبد قومه ليلاً ونهاراً!!
وعليه فلا يمكن القول بأن «الدعاء» و «العبادة» مترادفان ، فإذا نادى شخص أحداً من الأولياء والصالحين فقد عبده ; وذلك أنّ النداء أعمّ من العبادة .
2ـ المراد من الدعاء في مجموع هذه الآيات ليس هو مطلق النداء ، بل هو الدعوة الخاصة التي يمكن ان تلازم العبادة ; وذلك أنّ جميع هذه الآيات واردة في شأن عبدة الأوثان الذين يعتقدون أنّ الأوثان آلهة صغار . ولا ريب أنّ دعاء واستغاثة هؤلاء بآلهتهم التي يعتقدون أنها المالكة للشفاعة والمغفرة و… وانها المتصرّف المستقلّ في اُمور الدنيا والآخرة . ومن الواضح أنّه في مثل هذه الظروف والشرائط يكون طلب ودعاء هؤلاء لهذه الموجودات عبادة .
ومن أوضح الشواهد على أنّ دعوة هؤلاء كانت مقرونة بعقيدة الاُلوهية هو هذه الآية الشريفة :
فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْء[43]
وعلى هذا فالآيات المبحوث عنها لا ربط لها بالبحث ، فمحلّ البحث هو طلب عبد من آخر لا يعتقد الوهيته ولا يرى أنّه المالك والمتصرف المختار في شؤون الدنيا والآخرة ، وإنما يرى أنّه عبد عزيز ومحترم من عبيد الله سبحانه ، اجتباه الله رسولاً أو نبياً ، ووعده قبول دعائه في حق العبيد بقوله :
وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَـهُمْ جاؤُوكَ فَاسْـتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْـتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُـولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّابًا رَحِيمًا [44]
3 ـ الآيات المذكورة دليل واضح على أنّ المراد من الدعوة ليس هو مطلق طلب الحوائج ، وإنما الدعوة للعبادة ، وذلك للتعبير في نفس الآية بعد ذلك بلفظ العبادة ، فالآية هي :
وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [45] .
ففي أول الآية ورد لفظ «ادْعُونِي» وفي آخرها لفظ «عِبادَتِي» ، وهذا دليل على أنّ المراد من الطلب أو الاستغاثة انما هو بالموجودات الاُخرى التي يعتقد أنها بالصفات الإلهية .
النتيجة :
نستنتج من المقدمات الثلاث المذكورة أنّ الهدف الرئيسي للقرآن من هذه الآيات هو النهي عن دعوة عَبَدة الأوثان الذين يرون أنّ الأوثان شريكة للباري سبحانه و أنها المدبّرة والشفيعة ، فكل خضوع وتذلل واستعانة واستغاثة واستشفاع بهذه كان من خلال النظر إليها كآلهة صغار هي المتولية لشؤون الإله في الدنيا والآخرة ، و أنّ الباري فوّض إليها شؤون الخلق . وليست لهذه الآيات علاقة بالتوسّل والاستغاثة بالأرواح الطاهرة والنفوس الزكية للأولياء الذين هم في نظر الداعي عبيد لله سبحانه وتعالى ولا يسمو مقامهم عن حد العبودية شيئاً أصلاً ، وإنما هم عباد محبوبون لله جلّ وعلا . وإذا قالت الآية الكريمة :
وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدًا [46]
فالمراد هو دعوة عرب الجاهلية لمعبوداتهم من الأصنام أو الأجرام السماوية أو الملائكة أو الجنّ . فهذه الآية ونظائرها ناظرة لدعوة الشخص أو الشيء المقرونة باعتقاد الالوهية ، ولا ريب أنّ دعاء هذه المخلوقات مع هذه العقيدة يعدّ عبادة لها ، لكن ما هي علاقة هذه الآيات بالدعاء والطلب من شخص مع عدم اعتقاد ربوبيته ؟ !
لكن يمكن أن يتصوّر أنّ الاستغاثة بالأولياء والصالحين جائز في زمان حياتهم فحسب ، و أمّا بعد مماتهم فهو غير جائز ، وشرك بالله العظيم .
وللجواب عن هذا التصور نقول :
1 ـ نحن إنما نستعين بأرواح الصالحين من عباد الله كنبيّنا و أئمّتنا صلوات الله عليهم أجمعين ، الذين صرح القرآن الكريم بحياتهم ، و أنّهم يعيشون في مقام أسمى من مقام الشهداء في عالم البرزخ ، ولا نستعين بأبدانهم المودعة في لحود القبور ، وإن كنا نستعين بهم عند قبورهم ، فهو لأنّ هذه الحالة تقوّي حالة الارتباط بأرواحهم الطاهرة والتوجه إليها . مضافاً إلى أنّ مضاجعهم الطاهرة من مواضع استجابة الدعاء كما ورد في الروايات الشريفة .
2 ـ لا يمكن جعل الحياة والممات معياراً للشرك والتوحيد ، مع أنّ كلامنا هنا عن المعيار في ذلك ، لا في مقام قبول هذه الأدعية والاستغاثات وعدمه . مع أننا بينّا هذه الجهة في محلّها أيضا .
السؤال الخامس عشر
ما هو البداء ولماذا تعتقدون به ؟
البداء لغة : هو الظهور والجلاء . وفي اصطلاح علماء الشيعة : تغيّر المسير الطبيعي لمصير الإنسان على أثر سلوكه وعمله الصالح .
والبداء من المسائل العقائديّة السامية في المذهب الشيعي ، وهي مستوحاة من العقل والنقل . فالإنسان في الرؤية القرآنية ليس محدوداً ومقيداً بمصير معين ، بل له الرجوع عن جادة الضلال وتغيير مصيره من الشقاء إلى السعادة ، وستكون أعماله الصالحة سبباً لتغيير مصيره . ومن هنا يبين القرآن الكريم هذه الحقيقة كأصل ثابت وشامل ، فيقول :
إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [47]
وقال في موضع آخر :
وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَ الاَْرْضِ [48]
وقال في شأن النبيّ يونس(عليه السلام) وتغيير مصيره :
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[49]
والذي يبدو من الآية الأخيرة هو أنّ مقتضى الحال كان يوجب بقاء يونس في هذا السجن إلى يوم القيامة ، لكن عمله الصالح ـ وهو التسبيح ـ غيّر مصيره و أنجاه مما كان فيه .
كما أنّ الروايات الشريفة أيدت هذه الحقيقة ، حيث يقول نبينا(صلى الله عليه وآله) :
«إنّ الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يردّ القدرَ إلاّ الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلاّ البرّ» [50]
فيستفاد من هذه الرواية و أمثالها أنّ الإنسان يحرم من الرزق بسسبب المعاصي ، ولكنه بالعمل الصالح كالدعاء يمكنه تغيير المقدّر له ، وبالإحسان يزيد في عمره .
النتيجة :
المستفاد من آي الذكر الحكيم و السنّة الشريفة أنّ الإنسان ـ وفقاً لنظام الأسباب والمسببات ـ قد يكون محكوماً بمصير مظلم نتيجة لسوء أعماله ، بل قد يخبره أحد الأولياء أو الأنبياء (عليهم السلام) بسوء منقلبه وعاقبته ، ومعنى هذا الإخبار هو أنّ نتيجة هذا السلوك والتصرف إذا ما استمرّ هو هذه النتيجة المشؤومة . وأما إذا حصل تغيّر وتحوّل في سلوكه فإن مآله و مصيره سينقلب و يتغيّر .
فهذه الحقيقة النابعة من الوحي الإلهي والروايات الشريفة والعقل هي المسماة عند علماء الشيعة بـ «البداء» .
الجدير بالذكر أنّ اصطلاح «البداء» ليس من التعابير المختصة بالشيعة ، وإنما نجده في كتب أهل السنة أيضاً ، بل نجد أساسه في أحاديث نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله) ، ونحن ننقل على سبيل المثال حديثاً واحداً استعمل فيه النبيّ(صلى الله عليه وآله) لفظ البداء ، وهو :
وفي حديث الأقرع والأبرص والأعمى «بدا للّهِ عزّوجلّ أن يبتليهم» [51]
نعم ، البداء لا يعني حصول التغيير في ساحة العلم الإلهي الأقدس ; لإن الباري عزّوجلّ عالم بسلوك الناس وسيرتهم الطبيعية ، وعالم بالعوامل المؤثرة في تغيير هذه المسيرة والحركة نحو اتجاه آخر التي هي السبب في حصول البداء ، وهذا ما صرح به الذكر الحكيم بقوله :
يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [52]
فعلى هذا الأساس يكون معنى البداء لله سبحانه هو أن تظهر لنا الحقيقة المخفيّة علينا والمعلومة له سبحانه من الأزل . ولهذا يقول إمامنا الصادق(عليه السلام) :
«ما بَدا لِلهِ في شيء إلاّ كان في عِلمِه قبلَ أن يَبدوَ لَهُ» [53]
فلسفة البداء :
لا شك ولا ريب أنّ الإنسان إذا علم أنّ بإمكانه تغيير مصيره فإنّه سيندفع نحو تحقيق مستقبل أفضل ، وسيتحرك إلى ذلك بحافز أقوى وجدّية أكثر . وبعبارة اُخرى وبيان آخر : كما أنّ التوبة والشفاعة لهما الأثر في إيجاد النشاط والحيوية في الحياة والحيلولة دون اليأس والقنوط ، فكذا البداء ; فإنّه باعث على الحيويّة والأمل في الحياة ، ويبعث على الثقة بمستقبل زاهر ; لأنّه يعلم أنّ القضاء الإلهي فسح له المجال لتغيير مستقبله ومصيره ومآله نحو الأفضل .
[1] كتب العهد القديم هي : مزامير داود(عليه السلام) ، المزمور 96 و 97 ، وكتاب النبيّ دانيال(عليه السلام) ، الباب 12 .
[2] سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 310 ، ح 4283 . ينابيع المودة ، ص 432 . نور الأبصار ، الباب 2 ، ص 154 .
[3] من هذه الكتب : البيان في أخبار صاحب الزمان ، تأليف : محمد بن يوسف الكنجي الشافعي . والبرهان في علامات مهديّ آخر الزمان ، تأليف : عليّ بن حسام الدين المعروف بالمتقي الهندي . والمهديّ والمهدوية ، تأليف : أحمد أمين .
و أما علماء الشيعة فلهم تأليفات كثيرة في هذا المجال يعسر احصاؤها وعدّها ، ككتاب الملاحم والفتن و ...
[4] ينابيع المودة ، الباب 76 ، في المناقب المرويّة عن جابر بن عبد الله .
[5] العنكبوت : 14 .
[6] الصافات : 143 ـ 144 .
[7] الأعراف : 17 .
[8] الأنفال : 34 .
[9] وغيرهما من الآيات الكثيرة والتي منها : )بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( (البقرة : 100) ، )وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ((آل عمران : 110) ، )وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( (المائدة : 103) ، )وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ((الأنعام : 37) ، )وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ( (الأنعام : 111) ، )وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ( (الأعراف : 102) ، )وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ((التوبة : 8) ، )وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الاَْرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ((الأنعام : 116) ، )فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْت مِنَ الْمُسْلِمِينَ( (الذاريات : 36) .
[10] سبأ : 13 .
[11] انساب الاشراف للبلاذري، ص 238 . فيض القدير في شرح الجامع الصغير ، ج 1 ، ص 272 و ج 4 ، ص 23 .
[12] الإسراء : 36 .
[13] البقرة : 55 و 56 .
[14] آل عمران : 49 .
[15] النمل : 82 و 83 .
[16] الدر المنثور ، ج 5 ، ص 117 .
[17] هود : 103 .
[18] فسّر السيوطي اليوم بـ «يوم القيامة» ، (انظر : الدر المنثور ، ج 3 ، ص 349) .
[19] الكهف : 47 .
[20] بحار الأنوار : ج 7 ، ص 61 ، ح 13 نقلاً عن الخصال .
[21] من لا يحضره الفقيه ، ج 3 ، ص 458 ، ح 4583 .
[22] مسند احمد بن حنبل ، ج 1 ، ص 301 . صحيح البخاري ، ج 1 ، ص 91 (طبع مصر) .
[23] طه : 109 .
[24] المدثر : 48 .
[25] غافر : 18 .
[26] سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1441 ، ح 4310 . سنن الترمذي ، ج 4 ، ص 45 . سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 537 . مسند أحمد ، ج 3 ، ص 213 .
[27] الزمر : 44 .
[28] الحجر : 29 ـ 30 .
[29] يوسف : 100 .
[30] سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1444 باب ذكر الشفاعة .
[31] النساء : 64 .
[32] يوسف : 97 .
[33] يوسف : 98 .
[34] فاطر : 15 .
[35] آل عمران : 126 .
[36] الفاتحة : 5 .
[37] الأحزاب : 17 .
[38] البقرة : 45 .
[39] الفاتحة : 5 .
[40] الجن : 18 .
[41] يونس : 106 .
[42] نوح : 5 .
[43] هود : 101 .
[44] النساء : 64 .
[45] غافر : 60 .
[46] الجن : 18 .
[47] الرعد : 11 .
[48] الأعراف : 96 .
[49] الصافات : 143 و 144 .
[50] مسند احمد بن حنبل ، ج 5 ، ص 277 . المستدرك على الصحيحين ، ج 1 ، ص 493 ، وج 3 ، ص 481 .
[51] النهاية في غريب الحديث لابن الاثير ، ج 1 ، ص 109 .
[52] الرعد : 39 .
[53] الكافي ، ج 1 ، ص 148 ، ح 9 .