الفصل الثاني |
قال ابو مسلم:
خرجت مع الحسن البصري وأنس بن مالك الى دار أم سلمة ـــ زوج النبي ( ص) ـــ فجلس انس جانبا، ودخلت مع الحسن. فسلم عليها واجابته، ثم قالت له:
ـــ من أنت يا بني؟
قال: الحسن البصري.
قالت: لم جئت؟
قال: جئت لتحدثيني بحديث سمعتيه من رسول الله (ص) في علي بن أبي طالب.
قالت: لأحدثنك بحديث سمعته آذاني من رسول الله (ص) والا فصمتا، ورأته عيناي والا فعميتا ان كنت كاذبة! ووعاه قلبي والا فطبع الله عليه واخرس لساني ان لم أكن سمعت رسول الله (ص) يقول لعلي:
يا علي! ما من عبد لقي الله يوم القيامة يلقاه جاحدا لولايتك الا لقي الله بعبادة صنم أو وثن.
فقال الحسن البصري:
ـــ الله اكبر اشهد ان عليا (ع) مولاي ومولى المؤمنين.
فلما خرجنا رآنا أنس بن مالك فقال للحسن:
ـــ ما لي اراك كبرت؟
قال: لقد حدثتني ام سلمة بحديث عن علي فكبرت تعجبا من عظمته.
فقال انس خادم النبي (ص):
ـــ اشهد على رسول الله (ص) انه قال ذلك ثلاث مرات أو اربع([1]).
كان رجلا بلا أيد ولا أرجل وهو أعمى يقول:
ـــ رب نجني من النار.
فقيل لـه: انت مع هذه الحال قد استوفيت عقوبتك، ومع ذلك تسأل النجاة من النار.
قال: كنت فيمن قتل الحسين عليه السلام بكربلاء، فلما قتل وسلبه الناس ثيابه رأيت عليه سراويلا وتكة حسنة، فاردت ان انزع منه التكة. فرفع يده اليمنى ووضعها على التكة فلم اقدر على دفعها فقطعت يمينه، ثم هممت ان آخذ التكة فرفع شماله فوضعها عليها فقطعت شماله ثم هممت بنزعها، فسمعت زلزلة فخفت وتركته، فلما جن الليل نمت بين القتلى.
فرأيت في المنام كأن محمداً (ص) اقبل ومعه علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام فأخذت تقبل الحسين وهي تقول:
ـــ قتلوك ياولدي، قتلهم الله. من قتلك؟
فسمعت الحسين عليه السلام قال:
ـــ قتلني شمر، وقطع يداي هذا النائم.
فالتفتت الي فاطمة عليها السلام وقالت:
ـــ قطع الله يديك ورجليك واعمى بصرك وادخلك النار!
فأفقت من النوم واذا أنا لا أبصر شيئا وسقطت مني يداي ورجلاي وبقيت الرابعة ـــ أي دخول النار ـــ ولهذا اقول :
ـــ رب نجني من النار([2]).
حين توفي الملعون يزيد، خلفه ابنه معاوية، ولم يمر عليه وقت طويل حتى خلع نفسه من الخلافة، فقام خطيبا وقال:
ـــ أيها الناس ما أنا بالراغب في التأمر عليكم ولا بالآمن لكراهتكم، بل بلينا بكم وبليتم بنا.
الا أن جدي معاوية نازع الامر علي بن أبي طالب عليه السلام وهو أولى به لقدمه وسابقته في الاسلام ـــ فقاتله وارتكب بحقه اقبح الاعمال، وفعلتم الى جانبه ما لا تجهلون، حتى قبر معاوية وصار رهين عمله وضجيع حفرته، ثم عهد الى يزيد وقد كان خليقا ان لا يركب سنته اذ كان غير جدير بالخلافة. فركب روعه واستحسن خطأه فقلت مدته وانقطعت آثاره وخمدت ناره وزال فساده ولقد انسانا الحزن به الحزن عليه.
ثم قال:
ـــ وصرت انا الثالث من القوم وأرى ان الزاهد فيّ اكثر من الراغب وما كنت لأحتمل آثامكم، شأنكم وأمركم فولوا من شئتم!
قيل، فقام اليه مروان وقال:
ـــ اعمل بنا بسنة عمر.
فقال: والله لو كانت الخلافة مغنما فقد اصبنا منها حظا، ولئن كانت شرا فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها.
ثم نزل من المنبر، فقالت له أمه:
ـــ ليتك كنت حيضة.
فقال: وانا كنت اتمنى ذلك ولم أعلم إن لله نارا يعذب بها من عصاه وأخذ غير حقه([3]).
خطب عبدالملك بن مروان الناس في مكة وما أن بلغ الوعظ والارشاد حتى قام اليه رجل فقال له:
ـــ مهلا! انكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتعظون، أفاقتداء بسيرتكم ام طاعة لأمركم؟
فإن قلتم إقتداء بسيرتنا، فكيف نقتدي بسيرة الظالمين، وماالحجة في اتباع المجرمين المذنبين الذين اتخذوا مال الله دولا وجعلوا عباد الله خولا؟
وإن قلتم اطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه أم كيف تثبت طاعة من لم تثبت لـه عدالة؟
وإن قلتم خذوا الحمكة أنى وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها، فلعل فينا من هو افصح بصنوف العظات واعرف بوجوه اللغات منكم فتنحوا عن الخلافة واطلقوا اقفالها وخلوا سبيلها ينتدب لها الذين شردتم في البلاد ونقلتموهم عن مستقرهم الى كل واد.
فوالله ماقلدناكم ازمة أمورنا وحكمناكم في أموالنا وأيدينا وأدياننا لتسيروا فينا بسيرة الجبارين، غير أننا بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة وبلوغ الغاية وتمام المحنة، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه وكتاب لا بد ان يتلوه ]لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها[.
وهنا انبرى احد زبانية خليفة المسلمين فأخذه ولم يعلم بعد ذلك خبره([4]).
قال عبدالله البزار النيشابوري:
كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطوسي ـــ أحد ولاة هارون ـــ معاملة، فرحلت اليه في بعض الايام، فبلغه خبر قدومي، فدعاني اليه فورا وعلي ثياب السفر لم اغيرها، وكان ذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر.
فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلمت عليه وجلست، فأتى حميد بطست وابريق فغسل يديه، ثم امرني فغسلت يدي واحضرت المائدة ونسيت أني صائم، ثم تذكرت فأمسكت.
فقال لي حميد:
ـــ مالك لا تأكل؟
فقلت: ايها الأمير هذا شهر رمضان ولست بمريض ولا بي علة توجب الافطار، ولعل الامير لـه عذره في ذلك او علة توجب الافطار.
فقال: ما بي علة توحب الافطار واني لصحيح البدن.
ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه:
ـــ ما يبكيك ايها الامير؟
قال: انفذ الي هارون الرشيد حين كان بطوس في بعض الليل ان أجب، فلما دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفا أخضر مسلولا وبين يديه خادم واقف فلما قمت بين يديه رفع رأسه الي وقال:
ـــ كيف طاعتك لأمير المؤمنين([5])؟
قلت: بالنفس والمال.
فأطرق ثم أذن لي في الانصراف، فلم البث في منزلي حتى عاد الرسول الي وقال اجب امير المؤمنين. فقلت في نفسي إنا لله أخاف ان يكون قد عزم على قتلي وانه لما رآني استحيا مني فلما وقفت بين يديه فرفع رأسه الي فقال:
ـــ كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟
فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد.
فتبسم ضاحك، ثم اذن لي في الانصراف.
فلما دخلت منزلي لم البث حتى عاد الي الرسول فقال:
ـــ اجب أمير المؤمنين.
فحضرت بين يديه وهوعلى حاله فرفع رأسه الي فقال:
ـــ كيف طاعتك لأمير المؤمنين.
فقلت: بالنفس والمال والاهل والولد والدين.
فضحك ثم قال لي:
ـــ خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم.
قال فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي الى بيت بابه مغلق ففتحه فاذا فيه بئر في وسطه وثلاث بيوت ابوابها مغلقة ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيدون، فقال لي:
ـــ أن امير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء.
وكانوا كلهم علويين من ولد فاطمة وعلي عليه السلام فجعل يخرج الي واحد بعد واحد فاضرب عنقه حتى اتيت على آخرهم ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في ذلك البئر.
ثم فتح باب بيت آخر فاذا ايضا عشرون نفسا من العلويين من ولد علي وفاطمة مقيدون، فقال لي:
ـــ أن امير المؤمنيين يأمرك بقتل هؤلاء؟
فجعل يخرج الي واحد بعد واحد فاضرب عنقه ويرمي به في ذلك البئر حتى اتيت على أخرهم.
ثم فتح باب البيت الثالث، فاذا فيه مثلهم عشرون نفسا من ولد على وفاطمة مقيدون فجعلت اضرب اعناقهم واحدا واحدا حتى اتيت على تسع عشر منهم وبقي شيخ منهم فقال:
ـــ تبا لك يا مشؤوم، أي عذر لك يوم القيامة اذا قدمت على جدنا رسول الله (ص) وقد قتلت من اولاده ستين نفسا قد ولدهم علي وفاطمة؟
فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر الي الخادم مغضباً فاتيت على الشيخ فقتلته، فرمى الخادم به في البئر، والآن ما فائدة الصوم والصلاة لي والحال أني موقن بالخلود في النار([6]).
قال احمد بن الحواري:
ـــ كنت اتمنى رؤية سليمان الداراني ـــ أحد العرفاء ـــ في المنام، فرأيته بعد سنه. فقلت له:
ـــ ما فعل الله بك يا أستاذ؟
فقال لي:
ـــ يا أحمد! جئت من موضع فرأيت مقدار من الحطب فأخذت عودا واحدا بحجم المسواك، ولا أدري تخللت به أم لا! ولي الآن سنة أحاسب على ذلك العود([7]).