إسلام الراهب على يد الإمام علي ( عليه السلام )
لما
توجَّه الإمام علي ( عليه السلام ) إلى صفين ، لحق أصحابه عطشٌ شديد ، ونفد ما كان
معهم من الماء ، فأخذوا يميناً وشمالاً يلتمسون الماء فلم يجدوا له أثراً .
فعدل
بهم أَمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن الجادَّة وسار قليلاً ، فلاح لهم ديرٌ في
وسط البرِّيَّـة فسار بهم نحوه ، حتى إذا صار في فنائه أمر مَنْ نادى ساكنه
بالاطِّلاع إليهم فنادَوه فاطَّلع ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هل
قُرب قائمك هذا ماء يتغوَّثُ به هؤلاء القوم ؟
فقال
: هيهات ، بيني وبين الماء أكثر من فرسخين ، وما بالقرب مِنِّي شيء من الماء ،
ولولا إنـني أُوتي بماءِ يكفيني كلَّ شهر على التقتير لتلفت عطشاً .
فقال
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أَسَمعتم ما قال الراهب ؟
قالوا
: نعم ، أفتأمرنا بالمسير إلى حيث أومأ إليه ، لعلَّنا ندرك الماء وبنا قوَّة ؟
فقال
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا حاجة بكم إلى ذلك ، ولوى عنق بغلته نحو القبلة
وأشار لهم إلى مكان يقرب من الدير .
فقال
( عليه السلام ) : اكشفوا الأرض في هذا المكان ، فعدل جماعة منهم إلى الموضع
فكشفوه بالمساحي ، فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع .
فقالوا
: يا أمير المؤمنين ، هنا صخرة لا تعمل فيها المساحي .
فقال
لهم ( عليه السلام ) : إنَّ هذه الصخرة على الماء ، فإن زالت عن موضعها وجدتم
الماء ، فاجتهدوا في قلبها .
فاجتمع
القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً واستصعبت عليهم .
فلما
رآهم ( عليه السلام ) قد اجتمعوا وبذلوا الجهد في قلع الصخرة فاستصعبت عليهم ، لوى
( عليه السلام ) رجله عن سرجه حتى صار على الأرض ، ثم حسر عن ذراعيه ووضع أصابعه
تحت جانب الصخرة فحرَّكها ، ثم قلعها بيده .
فلما
زالت عن مكانها ظهر لهم بياض الماء ، فتبادروا إليه فشربوا منه ، فكان أعذب ماء
شربوا منه في سفرهم وأبرده وأصفاه ، فقال لهم : تزوَّدوا وارتَوُوا ، ففعلوا ذلك .
ثم
جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت ، وأمر أَن يُعفى أثرها بالتراب ،
والراهب ينظر من فوق ديره ، فلما استوفى عِلم ما جرى نادى : يا معشر الناس أنزلوني
أنزلوني .
فاحتالوا
في إنزاله فوقف بين يدي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : يا هذا أنت نبيُّ
مرسل ؟
فقال
( عليه السلام ) : لا .
قال
الراهب : فملك مقرَّب ؟
قال
( عليه السلام ) : لا .
قال
الراهب : فمن أنت ؟
قال
: أنا وصي رسول الله محمد بن عبد الله خاتم النبيِّين .
قال
الراهب : أبسط يدك ، أُسلم لله تبارك وتعالى على يدك ، فبسط أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) يده وقال له : اشهد الشهادتين .
فقال
الراهب : أشهد أَن لا اله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، وأشهد أنك وصي
رسول الله ، وَأَحَقَّ الناس بالأمر من بعده .
فأخذ
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عليه شرائط الإسلام ثم قال له : ما الذي دعاك إلى
الإسلام بعد طول مقامك في هذا الدير على الخلاف ؟
فقال
: أخبرك –
يا أمير المؤمنين
– ، إن هذا الدير بُنِي على طلب قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من
تحتها ، وقد مضى عالم قبلي لم يدركوا ذلك ، وقد رزقنيه الله عزَّ وجلَّ ، وأنـا
نجد في كتاب من كتبنا ونأثرُ عن علمائنا أن في هذا الصقيع عيناً عليها صخرة ، لا
يعرف مكانها إلا نبيّاً أو وصيَّ نبيٍّ .
وأنه
لا بد من ولي لله يدعو إلى الحقِّ ، آيته معرفة مكان هذه الصخرة ، وقدرته على
قلعها ، وإني لما رأيتك قد فعلت ذلك تحققَ ما كنت أنتظره ، وبلغت الأمنية منه ،
فأنا اليوم مسلم على يدك ، ومؤمن بحقك وموالاتك .
فلما
سمع ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : الحمد لله الذي لم أكن عنده منسياً ،
الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكورا .
ثم
دعا الناس فقال لهم : اسمعوا ما يقول أخوكم هذا المسلم ، فسمعوا مقالته .
ثم
سار ( عليه السلام ) والراهب بين يديه في جملة أصحابه حتى لقي أهل الشام ، فكان
الراهب من جملة من استشهد معه ، فتولى الإمام ( عليه السلام ) الصلاة عليه ودفنه
وأكثر ( عليه السلام ) من الاستغفار له .