الصفحة الماضية

المعاملات

صفحة الآتية

 

أما المعاملات : وهي ما يتوقف على طرفين : موجب وقابل ، فتارة : يكون المقصد المهم منها المال ، وهي عقود المعاوضات ، وهي على قسمين :

العقود اللازمة : كالبيع ، والإجارة ، والصلح ، والرهن ، والهبة المعوضة ، وما إلى ذلك من نظائرها ، وهي عقود المغابنات .

والعقود الجائزة : كالقرض ، والهبة غير المعوضة ، والجعالة ، وأضرابها.

والكل مشروح في كتب الفقه ، في متونها وشروحها ، وأصولها وفروعها ، وقواعدها وأدلتها ، من مطولات ومختصرات .

ولكن أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ لا يحيدون قيد شعرة في شيء من أحكام تلك المعاملات ـ كما لا يحيدون في العبادات أيضاً ـ عن الكتاب والسنة ، والقواعد المستفادة منها من استصحاب وغيره .

ولا يحل عندنا اكتساب المال إلا من طرقه المشروعة ، بتجارة أو إجارة ، أو صناعة أو زراعة ، أو نحو ذلك. ولا يحل بالغصب ، ولا بالربا ، ولا بالخيانة ، ولا بالغش ، ولا التدليس ، ولا تحل عندنا الخديعة للكافر فضلاً عن المسلم . كما يجب أداء الأمانة ، ولا تحل خيانة الكافر فيها فضلاً عن المسلم .

وتارة : يكون الغرض المهم ليس هو المال ، وإن تضمن المال ، وذلك كعقود الزواج الذي يقصد منه النسل ونظام العائلة وبقاء النوع ، وهو عندنا قسمان :

عقد الدوام : وهو الزواج المطلق .

والعقد المرسل ( وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم )(1).

وعقد الانقطاع : وهو الزواج المقيد والنكاح الموقت .

والأول هو الذي اتفقت عليه عامة المسلمين .

وأما الثاني ويعرف ( بنكاح المتعة ) المصرح به في الكتاب الكريم بقوله تعالى : ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أُجُرَهُنَّ )(2) فهو الذي انفردت به الإمامية من بين سائر فرق المسلمين بالقول بجوازه وبقاء مشروعيته إلى الأبد ، ولا يزال النزاع محتدماً فيه بين الفريقين ، من زمن الصحابة وإلى اليوم . وحيث إن المسألة لها مقام من الاهتمام ، فجدير أن نعطيها ولو بعض ما تستحق من البحث ، إنارة للحقيقة ، وطلبا للصواب .

فنقول : إن من ضروريات مذهب الإسلام ـ التي لا ينكرها من له أدنى إلمام بشرائع هذا الدين الحنيف ـ أن المتعة ـ بمعنى العقد إلى أجل مسمى ـ قد شرعها رسول الله صلى الله عليه واله ، وأباحها ، وعمل بها جماعة من الصحابة في حياته ، بل وبعد وفاته ، وقد اتفق المفسرون : أن جماعة من عظماء الصحابة كعبدالله بن عباس ، وجابر بن عبدالله الأنصاري ، وعمران بن الحصين ، وأبن مسعود ، وأُبي بن كعب ، وغيرهم كانوا يفتون بإباحتها ، ويقرأون الآية المتقدمة هكذا : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى )(3) .

ومما ينبغي القطع به أن ليس مرادهم التحريف في كتابه جل شأنه ، والنقص منه ( معاذ الله ) بل المراد بيان معنى الآية على نحو التفسير الذي أخذوه من الصادع بالوحي ، ومن انزل عليه ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه .

والروايات التي أوردها ابن جرير في تفسيره الكبير وان كانت ظاهرة في أنها من صلب القران المنزل حيث يقول أبو نصيرة : قرأت هذه الآية على ابن عباس فقال : إلى أجل مسمى . فقلت : ما أقرأها كذلك ، قال : والله لأنزلها الله كذلك ( ثلاث مرات )(4). ولكن يجل مقام حبر الامة عن هذه الوصمة ، فلا بد أن يكون مراده ـ إن صحت الرواية ـ أن الله أنزل تفسيرها كذلك .

وعلى أي ، فالإجماع ، بل الضرورة في الإسلام قائمة على ثبوت مشروعيتها ، وتحقق العمل بها ، غاية ما هناك أن المانعين يدعون أنها نسخت وحُرمت بعد ما أبيحت ، وحصل هنا الاضطراب في النقل والإختلاف الذي لا يفيد ظناً فضلاً عن القطع ، ومعلوم ـ حسب قواعد الفن ـ ان الحكم القطعي لا ينسخه إلا دليل قطعي .

فتارة : يزعمون أنها نسخت بالسنة ، وأن النبي حرمها ، بعد ما أباحها(5)، وأخرى : يزعمون أنها قد نسخت بالكتاب ، وهنا وقع الخلاف والإختلاف أيضا ، فبين قائل : أنها نسخت بآية الطلاق ( إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) (6)(7) وآخر يقول : نسختها آية مواريث الأزواج ( لكم نصف ما ترك أزواجكم )(8)(9) وأجدني في غنى عن بيان هذه الاوهام وسخافتها ، وأنه لا تنافي ولا تدافع بين هذه الآيات وتلك الاية حتى يكون بعضها ناسخا لبعض.

وسيأتي له مزيد توضيح في بيان أنها زوجة حقيقية ولها جميع أحكامها .

نعم ، يقول الأكثر منهم : أنها منسوخة بآية ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم )(10)(11) حيث حصرت الاية أسباب حلية الوطء بأمرين : الزوجية ، وملك اليمين .

قال الآلوسي في تفسيره : ليس للشيعة أن يقولوا أن المتمتع بها مملوكة ، لبداهة بطلانه ، أو زوجة ، لانتفاء لوازم الزوجية : كالميراث ، والعدة ، والطلاق ، والنفقة(3)؟ ! انتهى .

وما أدحضها من حجة ، أما أولاً : فإن أراد لزومها غالباً فهو مسلم ولا يجديه ، وإن أراد لزومها دائماً ، وأنها لا تنفك عن الزوجية ، فهو ممنوع أشد المنع ، ففي الشرع مواضع كثيرة لا ترث فيها الزوجة : كالزوجة الكافرة ، والقائلة ، والمعقود عليها في المرض إذا مات زوجها فيه قبل الدخول .

كما أنها قد ترث حق الزوجة مع خروجها عن الزوجية ، كما لو طلق زوجته في المرض ومات فيه بعد خروجها عن العدة قبل انقضاء الحول .

إذاً فالإرث لا يلازم الزوجية طرداً ولا عكساً .

وأما ثانيا : فلو سلمنا الملازمة ، ولكن عدم إرث المتمتع بها ممنوع . فقيل : بأنها ترث مطلقاً. وقيل : ترث مع الشرط . وقيل : ترث إلامع شرط العدم . والتحقيق حسب قواعد صناعة الإستنباط ، ومقتضى الجمع بين الآيتين إن المتمتع بها زوجة ، تترتب عليها آثار الزوجية إلا ما خرج بالدليل القاطع.

أما العدة ، فهي ثابتة لها بإجماع الإمامية قولاً واحداً ، بل وعند كل من قال بمشروعيتها.

أما النفقة ، فليست من لوازم الزوجية ، فإن الناشز زوجة ولا تجب نفقتها إجماعاً .

أما الطلاق ، فهبة المدة تغني عنه ، ولا حاجة إليه .

وأما ثالثاً : فنسخ آية المتعة بآية الأزواج مستحيل ، لأن آية المتعة في سورة النساء وهي مدنية(12) ، وآية الأزواج في سورة المؤمنين والمعارج ، وكلاهما مكيتان (13) ، ويستحيل تقدم الناسخ على المنسوخ .

وأما رابعاً : فقد روى جماعة من أكابر علماء السنة : أن اية المتعة غير منسوخة ، منهم الزمخشري في ( الكشاف ) حيث نقل عن ابن عباس : أن آية المتعة من المحكمات (14).

ونقل غيره : أن الحكم بن عيينة سئل : إن آية المتعة هل هي منسوخة ؟

فقال : لا(15).
والخلاصة: إن القوم يعد اعترافهم قاطبة بالمشروعية ادعوا أنها منسوخة ، فزعموا تارة نسخ آية بآية وقد عرفت حاله ، واخرى نسخ آية بحديث ، واستشهدوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلم من أن النبي صلى الله عليه وآله ، نهى عنها وعن الحمر الأهلية في فتح مكه أو فتح خيبر أو غزوة أوطاس
(16) .

وهنا اضطربت القضية اضطراباً غريباً ، وتلونت ألواناً ، وتنوعت أنواعاً ، وجاء الخلف والاختلاف ، الواسع الاكناف ، فقد حكي عن القاضي عياض : أن بعضهم قال : إن هذا مما تداوله التحريم والإباحة والنسخ مرتين (17)!!

ولكن من توسع في تصفح أسفارهم ، ومأثور أحاديثهم وأخبارهم ، يجد القضية أوسع بكثير ، ففي بعضها : أن النسخ كان في حجة الوداع [ السنة ] العاشرة من الهجرة (18) .

وأخرى : أنه في غزوة تبوك [ السنة ] التاسعة من الهجرة(19).

وقيل : في غزوة أوطاس ، أو غزوة حنين ، وهما في [ السنة ] الثامنة في [ شهر ] شوال (20).

وقيل : يوم فتح مكة ، وهو في شهر رمضان من [ السنة ] الثامنة أيضاً(21).
وقالوا : إنه أباحها في فتح مكة ثم حرمها هناك بعد أيام
(22) .

والشائع ـ وعليه الأكثر ـ : أنه نسخها في غزوة خيبر [ في السنة ] السابعة من الهجرة ، أو في عمرة القضاء ، وهي في ذي الحجة من تلك السنة(23).

ومن كل هذه المزاعم يلزم أن تكون قد ابيحت ونسخت خمس أو ست مرات لا مرتين أو ثلاث كما ذكره النووي وغيره في ( شرح مسلم )(24)! !

فما هذا التلاعب بالدين يا علماء المسلمين ؟ وبعد هذا كله ، فهل يبقى قدر جناح بعوضة من الثقة في وقوع النسخ بمثل هذه الأساطير المدحوضة باضطرابها أولاً ، وبأن الكتاب لا ينسخ باخبار الآحاد ثانياً ، وبأنها معارضة باخبار كثيرة من طرقهم صريحة في عدم نسخها ثالثاً.

ففي صحيح البخاري : حدثنا أبو رجاء ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله
عليه وآله ولم ينزل قران بحرمتها ، ولم ينه عنها رسول الله حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء . محمد : يقال : أنه عمر. انتهى نص البخاري
(25).

وفي صحيح مسلم : بسنده عن عطاء قال : قدم جابر بن عبدالله الأنصاري معتمراً ، فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثم ذكروا المتعة فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعلى عهد أبي بكر وعمر(26).

وفيه : عن جابر أيضاً حيث يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق لأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (27).

وفيه : عن أبي نضرة قال : كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم نهانا عنهما عمر ، فلم نعد لهما(28).

أقول : وإنما لم يعودوا لها لأن عمر كان يرجم من يثبت عنده أنه قد تمتع .

ومن يراجع هذا الباب من صحيح مسلم بإمعان يرى العجائب فيما أورده فيه من الأحاديث المثبتة والنافية ، والنسخ وعدم النسخ ، والجهني يقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها(29).

والنسخ تارة ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، واخرى إلى عمر ، وأنها كانت ثابتة في عهد النبي وعهد أبي بكر ، وأن علي بن أبي طالب عليه السلام نهى ابن عباس عن القول بالمتعة في مواطن فرجع عن القول بها(30) ، مع إنه روي أن ابن الزبير قام بمكة فقال : إن اناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم ( يعني ابن عباس ) يفتون بالمتعة

فناداه ( أي ابن عباس ) : إنك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين . . . الى آخر الحديث (31).

وهذا يدل على بقائه على فتواه الى اخر عمره في خلافة ابن الزبير.

وأعجب من الجميع نسبة النهي عنها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، مع أن حلية المتعة قد صار شعاراً لأهل البيت وشارة لهم ، وعلي عليه السلام بالخصوص قد تظافر النقل عنه بانكار حرمة المتعة ، ومن كلماته المأثورة التي جرت مجرى الأمثال قوله : « لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شفا أو شقي » .

ففي تفسير الطبري الكبير : روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : « لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي ـ أو شفا (32)ـ »(33). ومن طرقنا الوثيقة عن جعفر الصادق عليه السلام أنه كان يقول : « ثلاث لا أتقي فيهن أحدا : متعة الحج ، ومتعة النساء ، والمسح على الخفين » (34).

وكيف كان : فلا ريب حسب قواعد الفن ، والأصول المقررة في ( علم أصول الفقه ) أنه اذا تعارضت الأخبار وتكافأت سقطت عن الحجة والاعتماد ، وصارت من المتشابهات ، ولا بد من رفضها والعمل بالمحكمات . وبعد ثبوت المشروعية والإباحة باتفاق المسلمين ، واستصحاب بقائها ، واصالة عدم النسخ عند الشك ، يتعين القول بجوازها وحليتها إلى اليوم .

التمحيص وحل العقدة:

وإذا أردنا أن نسير على ضوء الحقائق ، ونعطي المسألة حقها من التمحيص والبحث عن سر ذلك الارتباك وبذرته الأولى ـ التي نمت وتأثلت ـ لا نجد حلاً لتلك العقدة إلا : أن الخليفة عمر قد اجتهد برأيه لمصلحة راها بنظره للمسلمين في زمانه وأيامه ، اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة منعاً مدنياً لا دينياً ، لمصلحة زمنية ، ومنفعة وقتية ، ولذا تواتر النقل عنه أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا احرمهما واعاقب عليهما(35). ولم يقل أن رسول الله صلى الله عليه وآله حرمهما أو نسخهما ، بل نسب التحريم إلى نفسه ، وجعل العقاب عليهما منه لا من الله سبحانه .

وحيث أن أبا حفص الحريص على نواميس الدين ، الخشن على إقامة شرائع الله ، أجل مقاماً ، وأسمى إسلاماً ، من أن يحرم ما أحل الله ، أو يدخل في الدين ما ليس من الدين ، وهو يعلم أن حلال محمد حلال الى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، والله سبحانه يقول في حق نبيه الكريم : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منهُ الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين )(36) فلا بد من أن يكون مراده المنع الزمني ، والتحريم المدني ، لا الديني ، ولكن بعض معاصريه ، ومن بعده من المحدثين البسطاء ، لما غفلوا عن تلك النكتة الدقيقة ، واستكبروا من ذلك الزعيم العظيم ـ القائم على حراسة الدين ـ أن يحرم ما
أحل الله ، ويجترى على حرمات الله ، اضطروا إلى استخراج مصحح ، فلم يجدوا إلا دعوى النسخ من النبي بعد الإباحة ، فارتبكوا ذلك الارتباك ، واضطربت كلماتهم ذلك الاضطراب ، ولو أنهم صححوا عمل الخليفة بما ذكرناه لأغناهم عن ذلك التكلف والارتباك .

ويشهد لما ذكرناه ما سبق من رواية مسلم عن جابر : كنا نتمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (37) الحديث .

فانه يدل دلالة واضحة أن عمر نهى عن المتعة من اجل قضية في واقعة استنكر الخليفة منها ، فرأى من الصالح للاُمة النهي عنها ، وإن كنا لم نعثر على شيء من شأن القضية ، ولكن أبا حفص كان معلوماً حاله في الشدة والتنمر ، والغلظة والخشونة في عامة اموره ، فربما يكون قد استنكر شيئاً في واقعة خاصة أوجب تأثره وتهيجه الشديد الذي بعثه على المنع المطلق خوف وقوع أمثاله ، اجتهاداً منه ورأياً تمكن في ذهنه ، وإلا فأمر المتعة وحليتها بعد : نص القران ، وعمل النبي ، والصحابة طول زمن النبي ، ومدة خلافة أبي بكر ، وبرهة من خلافة عمر ، أوضح من أن يحتاج إلى شيء من تلك المباحث والهنابث (38) ، وتلك المداولات العريضة الطويلة .

كيف والذي يظهر من فلي نواصي التاريخ ، والاستطلاع في ثنايا القضايا ، أن عقد المتعة كان مستعملاً في زمن الرسالة ، حتى عند أشراف الصحابة ورجالات قريش ، ونتجت منه الذراري والأولاد الأمجاد.

فهذا الراغب الأصفهاني ـ من عظماء علماء السنة ـ يحدثنا ـ وهو الثقة الثبت ـ في كتابه السابق الذكر ما نصه : أن عبدالله بن الزبير عير ابن عباس بتحليله المتعة ، فقال له ابن عباس : سل امّك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك .

فسألها فقالت : والله ما ولدتك إلا بالمتعة(39). وأنت تعلم من هي ام عبدالله بن الزبير ، هي أسماء ذات النطاقين ، بنت أبي بكر الصديق ، اخت عائشة ام المؤمنين ، وزوجها الزبير من حواري رسول الله ، وقد تزوجها بالمتعة ، فما تقول بعد هذا أيها المكابر المجادل ؟ !

ثم أن الراغب ذكر عقيب هذه الحكاية رواية اخرى فقال : سأل يحيى ابن أكثم شيخاً من أهل البصرة فقال له : بمن اقتديت في جواز المتعة ؟

فقال : بعمر بن الخطاب .

فقال له : كيف وعمر كان من أشد الناس فيها ؟!

قال : نعم ، صح الحديث عنه أنه صعد المنبر فقال : يا أيها الناس ، متعتان أحلهما الله ورسوله لكم وأنا احرمها عليكم واعاقب عليهما ، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه .انتهى(40) .

وقريب منها ما ينقل عن عبدالله بن عمر(41). ولكن في عبارة شيخ أهل البصرة من الشطح والتجاوز ما لا يرتضيه كل مسلم ، والعبارة الشائعة عن أبي حفص أخف وألطف من ذلك ، وهي قوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا احرمهما. وإذا كان مراده ما أوعزنا اليه ، وكشفنا حجابه ، وحللنا عقدته ، يهون الأمر ، وتخف الوطأة .

وبعد ما انتهينا في الكتابة إلى هنا ، وقفنا على كلام لبعض الأعاظم من علمائنا المتقدمين ، وهو المحقق محمد بن إدريس الحلي ، من أهل القرن السادس ، وجدناه يتفق مع كثير مما قدمناه ، فأحببنا نقله هنا ليتأكد البيان ، وتتجلى الحجة .

قال في كتابه ( السرائر ـ الذي هو من جلائل كتب الفقه والحديث ـ ما نصه : النكاح المؤجل مباح في شريعة الاسلام ، مأذون فيه ، مشروع في الكتاب والسنة المتواترة بإجماع المسلمين ، إلا أن بعضهم ادعى نسخه ، فيحتاج في دعواه الى تصحيحها ، ودون ذلك خرط القتاد. وأيضا فقد ثبت بالأدلة الصحيحة : أن كل منفعة لا ضرر فيها في عاجل ولا في اجل مباحة بضرورة العقل ، وهذه صفة نكاح المتعة ، فيجب إباحته بأصل العقل .

فإن قيل : من أين لكم نفي المضرة عن هذا النكاح في الآجل ، والخلاف في ذلك ؟

قلنا : من ادعى ضرراً في الاجل فعليه الدليل .

وأيضاً فقد قلنا : إنه لا خلاف في إباحتها من حيث أنه قد ثبت بإجماع المسلمين : أنه لا خلاف في إباحة هذا النكاح في عهد النبي صلى الله عليه واله بغير شبهة ، ثم ادعي تحريمها من بعد ونسخها ، ولم يثبت النسخ ، وقد ثبتت الإباحة بالإجماع ، فعلى من ادعى الحظر والنسخ الدلالة .

فإن ذكروا الأخبار التي رووها في أن النبي صلى الله عليه وآله حرمها ونهى عنها.

فالجواب عن ذلك: إن جميع ما يروونه من هذه الأخبار ـ إذا سلمت من المطاعن والضعف ـ أخبارآحاد ، وقد ثبت أنها لا توجب علماً ولا عملاً في الشريعة ، ولا يرجع بمثلها عما علم وقطع عليه .

وأيضا قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة )(42) .

ولفظة ( استمتعتم ) لا تعدو وجهين : إما أن يراد بهما الانتفاع أو الالتذاذ الذي هو أصل موضوع اللفظة ، أو العقد المؤجل المخصوص الذي اقتضاه عرف الشرع .

ولا يجوز أن يكون المراد هو الوجه الأول لأمرين :

أحدهما: إنه لا خلاف بين محصلي من تكلم في اصول الفقه في أن لفظ القرآن إذا ورد وهو محتمل الأمرين : أحدهما : وضع اللغة ، والاخر : عرف الشريعة ، فإنه يجب حمله على عرف الشريعة ، ولهذا حملوا كلهم لفظ : صلاة ، وزكاة ، وصيام ، وحج ، على العرف الشرعي دون الوضع اللغوي . . .

وأيضاً فقد سبق إلى القول بإباحة ذلك جماعة معروفة الأقوال من الصحابة والتابعين : كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وابن عباس ، ومناظراته لابن الزبير معروفة رواها الناس كلهم ، ونظم الشعراء فيها الأشعار فقال بعضهم :

أقول للشيخ لما طال مجلسه * ياصاح هل لك في فتوى ابن عباس

وعبدالله بن مسعود ، ومجاهد ، وعطاء ، وجابر بن عبدالله الأنصاري ، وسلمة بن الأكوع ، وأبي سعيد الخدري ، والمغيرة بن شعبة ، وسعيد بن جبير ، وابن جريح ، وأنهم كانوا يفتون بها . فادعاء الخصم الاتفاق على حضر النكاح المؤجل باطل . انتهى كلامه (43).

وكل ذي بصيرة يعرف ما فيه من المتانة والرصانة ، وقوة الحجة والمعارضة .

هذا كله في البحث عن المسألة من وجهتها الدينية والتاريخية ، والنظر اليها من حيث الدليل حسب القواعد الأصولية ، والطرق الشرعية . . . .

أما النظر فيها من الوجهة الأخلاقية والاجتماعية :

فأقول: أليس دين الإسلام هو الصوت الإلهي ، والنغمة الربوبية الشجية التي هبت على البشر بنسائم الرحمة ، وعطرت مشام الوجود بلطائف السعود ، وجاءت لسعادة الانسان لا لشقائه ، ولنعمته لا لبلائه ، هو الدين الذي يتمشى مع الزمان في كل أطواره ، ويدور مع الدهر في جميع أدواره ، ويسد حاجات البشر في نظم معاشهم ومعادهم ، وجلب صلاحهم ، ودرء فسادهم . ما جاء دين الاسلام ليشق على البشر ، ويلقيهم في حظيرة المشقة ، وعصارة البلاء والمحنة ، وكلفة الشقاء والتعاسة ، كلا ! بل جاء رحمة للعالمين ، وبركة على الخلق جميع ، ممهداً سبل الهناء والراحة ، ووسائل الرخاء والنعمة ، ولذا كان أكمل الأديان ، وخاتمة الشرائع ، إذ لم يدع نقصاً في نواميس سعادة البشر يأتي دين بعده فيكمله ، أو ثلمة في ناحية من نواحي الحياة فتأتي شريعة اخرى فتسدها .
ثم أوليس من ضرورات البشر ، منذ عرف الانسان نفسه ، وأدرك حسه ، ومن المهن التي لا ينفك عن مزاولتها ، والإندفاع اليها بدواع شتى وأغراض مختلفة هو السفر والتغرب عن الأوطان ، بداعي التجارة والكسب ، في طلب علم أو مال ، أو سياحة أو ملاحة ، أو غير ذلك من جهاد وحروب وغزوات ونحوها ؟

ثم أوليس الغالب في اولئك المسافرين لتلك الأغراض هم الشبان ، وما يقاربهم من أصحاء الأبدان ، وأقوياء الأجساد ، الراتعين بنعيم الصحة والعافية ؟

ثم أليس الصانع الحكيم ـ بباهر حكمته ، وقاهر قدرته ـ قد أودع في هذا الهيكل الانساني غريزة الشهوة ، وشدة الشوق والشبق إلى الأزواج ، لحكمة سامية ، وغاية شريفة ، وهي بقاء النسل ، وحفض النوع ، ولو خلي من تلك الغريزة ، وبلت أو ضعفت فيه تلك الجبلة لم يبق للبشر على مر الأحقاب عين ولا أثر.

ومن المعلوم أن حالة المسافرين المقوين لا تساعد على القران الباقي ، والزواج الدائم ، لما له غالباً من التبعات واللوازم ، التي لا تتمشى مع حالة المسافر ، فاذا امتنع هذا النحو من الزواج حسب مجاري العادات ، وعلى الغالب والمتعارف من أمر الناس ، وملك اليمين ، والتسري بالاماء والجواري المملوكة بأحد الأسباب ، قد بطل اليوم بتاتاً ، وكان متعذراً أو متعسراً من ذي قبل ، فالمسافر لا سيما من تطول أسفارهم في طلب علم أو تجارة ، أو جهاد أو مرابطة ثغر ، وهم في ميعة الشباب وريعان العمر ، وتأجج سعير الشهوة ، لا يخلو حالهم من أمرين : إما الصبر ومجاهدة النفس الموجب للمشقة التي تنجر إلى الوقوع في أمراض مزمنة ، وعلل مهلكة ، مضافا الى ما فيه من قطع النسل ، وتضييع ذراري الحياة المودعة فيهم ، وفي هذا نقض للحكمة ، وتفويت للغرض ، وإلقاء في العسر والحرج وعظيم المشقة التي تأباه شريعة الاسلام ، الشريعة السمحة السهلة ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )(44) ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (45)

وأما الوقوع في الزنا والعهار ، الذي ملأ الممالك والأقطار ، بالمفاسد والمضار .

ولعمر الله ، وقسماً بشرف الحق ، لو أن المسلمين أخذوا بقواعد الاسلام ، ورجعوا إلى نواميس دينهم الحنيف ، وشرائعه الصحيحة ( لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) (46) ولعاد إليهم عزهم الداثر ، ومجدهم الغابر .

ومن تلك الشرائع : مشروعية المتعة ، فلوأن المسلمين عملوا بها على اصولها الصحيحة من : العقد ، والعدة ، والضبط ، وحفظ النسل منها ، لانسدت بيوت المواخير ، وأوصدت أبواب الزنا والعهار ، ولارتفعت ـ أو قلت ـ ويلات هذا الشر على البشر ، ولأصبح الكثير من تلك المومسات المتهتكات مصونات محصنات ، ولتضاعف النسل ، وكثرت المواليد الطاهرة ، واستراح الناس من اللقيط والنبيذ ، وانتشرت صيانة الأخلاق ، وطهارة الأعراق ، إلى كثير من الفوائد والمنافع التي لا تعد ولا تحصى .

ولله در عالم بني هاشم ، وحبر الأمة عبدالله بن عباس ( رض ) في كلمته الخالدة الشهيرة التي رواها ابن الأثير في ( النهاية ) والزمخشري في ( الفائق ) وغيرهما حيث قال : ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها اُمّة محمد صلى الله عليه وآله ، ولولا نهيه عنها ما زنى إلا شفا(47). وقد أخذها من عين صافية ، من استاذه ومعلمه ومربيه أمير المؤمنين عليه السلام .

وفي الحق إنها رحمة واسعة ، وبركة عظيمة ، ولكن المسلمون فوتوها على أنفسهم ، وحرموا من ثمراتها وخيراتها ، ووقع الكثير في حماة الخنا والفساد ، والعار والنار ، والخزي والبوار ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير )(48) فلا حول ولا قوة إلا بالله .

ولكن مع هذا كله ألا تعجب حين ترى ما نشر في ( الاعتدال ) أيضاً ( 161 ) من المجلد الأول بعنوان : ( لم يبق إلا أن نتخذ من القلم إبرة تطعيم ، ونجعل المعاني مصلاً ) .

وذكر صورة كتاب ورد إليه من بغداد بتوقيع ( خادم العلماء ) ! ! على الجواب الذي تقدم في مبادئ هذه النسخة ، بتوقيع ( ابن ماء السماء ) يعيد فيه اشكال اختلاط الأنساب ، وضياع النسل ، وعقد عابر الطريق والمجهول ، ويقول : إن ابن ماء السماء لم يتعرض للمجهول الذي هو محل النظر ـ إلى أن قال : ـ فما يقول في تحليل المتعة الدورية التي يتناوبها ويتعاقبها ثلاثة أو أربعة بل وعشرة بحسب الساعات ! ! فما يقول في الولد إذا جاء من هذه الجهة ، فمن يتبع ، وبمن يلحق .

نعم ، من المعلوم حلية المتعة بجميع طرقها عند الشيعة ، ولكن تراهم يتحاشون ويتحاشى أشرافهم وسراتهم من تعاطيها بينهم ، فلم يسمع من يقول : حضرنا تمتع السيد الفلاني أو الفاضل الفلاني بالآنسة بنت السيد الفلاني ، كما يقال : حضرنا عقد نكاح الفاضل الفلاني بآنسة الفاضل ، بل أكثر جريانها وتعاطيها في الساقطات والسافلات ! ! فهل ذلك إلا لقضاء الوطر وإن حصل منه النسل قهراً . وجدير من العلامة كاشف الغطاء ـ الذي قام بتهذيب أصل الشيعة وأصولها ـ أن يهذب أخلاق أهلها ! ! وينهض بهم إلى مراتب النزاهة ! ! وفقه الله لذلك .

بغداد : خادم العلماء


ونشر في جواب هذا الكتاب ما نصه :

 

ورد على إدارة مجلة الإعتدال كتاب من بغداد ، من كاتب مجهول يقول : إنه قرأ في العدد الثالث من المجلة جواباً لابن ماء السماء ، فوجده لا يناسب السؤال ، ولا يلائم المقال ، ثم أعاد الكاتب ما ذكره السيد الراوي من إختلاط الأنساب ، وضياع النسل ، الذي دفعه ابن ماء السماء بأقوى حجة ، وأجلى بيان ، وقد أوضح له : أن حكمة تشريع العدة هو حفظ النسل ، ومنع اختلاط المياه ، وهي كما أنها لازمة في الدائم ، كذلك تلزم في المنقطع ، فلا يجوز لأحد أن يتمتع بإمرأة تمتع بها غيره حتى تخرج من عدة ذلك الغير ، وإلا كان زانياً ، ومع اعتبار العدة ، فأين يكون إختلاط الأنساب وضياع النسل ؟!

ثم قال الكاتب : ولم يتعرض ابن ماء السماء للمجهول الذي هو محل النظر ، فما حال الولد إذا تمتع بها عابر الطريق والمجهول وأتت بعد فراقه بالولد ؟ فقول ابن ماء السماء ( والولد يتبع والده ) فليت شعري أين يجده وهو مجهول . انتهى .

وما أدري أن هذا الخادم لم ينظر إلى تمام كلام ابن ماء السماء ، أو نظر فيه ولم يفهمه ، وإلا فأي بيان أوضح في دفع هذا الاشكال من قوله ( صفحه 112 ) : ويجب على الزوج أن يتعرف حالها ، ويعرفها بنفسه ، حتى إذا ولدت ولداً ألحق به ، كي لا تضيع الأنساب ، كذلك المتمتع بها إذا انتهى أجلها يجب عليها أن تعتد وأن يتعرف حالها وتعرف حاله ونسبه كي تلحق الولد به بعد فصاله أينما كان .

فاين المجهول الذي لم يتعرض له ابن ماء السماء أيها الكاتب المجهول ؟ !

وإذا كنت لا تفهم هذا البيان ـ مع هذا الوضوح والجلاء ـ فلم يبق إلا أن نتخذ من القلم إبرة تطعيم ، ونجعل المعاني مصلاً نحقن بها دماغك ، عساك تحس بها وتفهمها.

وأما قولك : فما قولكم في المتعة الدورية التي يتناوبها ويتعاقبها الثلاثة وإلأربعة بل والعشرة بحسب الساعات ! ! فمن يتبع الولد وبمن يلحق ؟

فاللازم ( أولاً ) أن تدلنا على كتاب جاهل من الشيعة ذكر فيه تحليل هذا النحو من المتعة ، فضلاً عن عالم من علمائهم ، وإذا لم تدلنا على كتابة منهم أو كتاب ، فاللازم أن تحد حد المفتري الكذاب . . . كيف وإجماع الإمامية على لزوم العدة في المتعة ، وهي على الأقل خمسة وأربعون يوماً ، فأين التناوب والتعاقب عليها حسب الساعات ؟ !

وإن كنت تريد أن بعض العوام والجهلاء ، الذين لا يبالون بمقارفة المعاصي ، وانتهاك الحرمات ، قد يقع منهم ذلك ، فهذا مع أنه لا يختص بعوام الشيعة ، بل لعله في غيرهم أكثر ، ولكن لا يصح أن يسمى هذا تحليلاً ، إذ التحليل ما يستند إلى فتوى علماء المذهب ، لا ما يرتكبه عصاتهم وقساتهم ، وهذا النحومن المتعة عند علماء الشيعة من الزنا المحض الذي يجب فيه الحد ، ولا يلحق الولد بواحد ، كيف وقد قال سيد البشر : « الولد للفراش وللعاهر الحجر »(49).

أما تحاشي أشراف الشيعة وسراتهم من تعاطيها فهو عفة وترفع ، واستغناء واكتفاء بما أحل الله من تعدد الزوجات الدائمة مثنى وثلاث ورباع ، فإن أرادوا الزيادة على ذلك جاز لهم التمتع باكثر من ذلك ، كما يفعله بعض أهل الثروة والبذخ من رؤساء القبائل وغيرهم .

وعلى كل فإن تحاشي الأشراف والسراة لا يدل على الكراهة الشرعية ، فضلاً عن عدم المشروعية ، ألا ترى أن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم كانوا كثيراً ما يتسرون بالإماء ، ويتمتعون بملك اليمين ، ويلدن لهم الأولاد الأفاضل . .. ؟ أما اليوم فالأشراف والسراة يأنفون من ذلك ، مع أنه حلال بنص القرآن العزيز.

كما أن تحاشي الأشراف والسراة من الطلاق ، بحيث لم نسمع أن شريفاً طلق زوجة له ، لا يدل على عدم مشروعية الطلاق .

أما قولك : وجدير من العلامة كاشف الغطاء ـ الذي قام بتهذيب أصل الشيعة واصولها ـ أن يهذب أخلاق أهلها وينهض بهم الى مراتب النزاهة .

فهو حق ، وما في الحق مغضبة ، وهو ـ دامت بركاته ـ لا يزال قائماً بوظيفته من التهذيب والإرشاد ، ليس للشيعة فقط ، بل لعامة المسلمين ، والجميع في نظره على حد سواء. ولكن لا تختص هذه الوظيفة به ـ أيده الله ـ بل تعم سائر علماء المسلمين ، ولعل وجوبها على علماء العواصم التي تكثر فيها المنكرات ، ويجاهر فيها بالكبائر أشد وأأكد ، والمسؤولية عليهم ألزم وأعظم .

ولولا أننا لا نريد أن نحيد عن خطة هذه الصحيفة ( الاعتدال ) لسردنا من أحوال سائر الطوائف ما يتجلى لكل أحد أن عوام الشيعة الإمامية ـ فضلاً عن خواصهم ـ أعف وأنزه ، وأتقى وأبر ، بيد أننا ـ حسب تعاليم استاذنا العلامة الأكبر كاشف الغطاء ـ نتباعد عن كل ما يشم منه رائحة النعرات الطائفية ، والنزعات المذهبية ، ونسعى ـ حسب إرشاده ـ الى توحيد الكلمة ، ورفض الفواصل والفوارق بين الأمم الاسلامية .

ولا يزال يعلمنا ـ وهو العلامة المصلح ـ أن دين الاسلام دين التوحيد لا دين التفريق ، وشريعته شريعة الوصل لا التمزيق ، وأن صالح المسلمين أجمعين قلع شجرة التشاجر والخلاف فيما بينهم من أصلها.

ولا يزال يوصينا ويقول : أيها المسلمون ، نزهوا قلوبكم عن نية السوء وألسنتكم عن بذيء القول والهمز واللمز ، وأقلامكم عن طعن بعضكم في بعض . . إذاً تسعدون وتعيشون كمسلمين حقاً ، وكما كان آباؤكم من قبل ، رجال صدق في القول ، وإخلاص في العمل .

هذه هي ( مراتب النزاهة ) يا خادم العلماء ، لا ما جئتنا به منذ اليوم ، وكنا نظن أن هذه المباراة والمناظرات في قضية المتعة قد انتهى دورانها، وغسلت أدرانها ، باجوبة ابن ماء السماء ، ولكن المسمي نفسه بـ ( خادم العلماء ) قد شاء ـ أو شاءت له الجهالة ـ أن يثير غبارها ، ويعيد شرارها ، ويستدل على الحقيقة أستارها ، والحقيقة نور تمزق الحجب والستور ، وتأبى إلا الجلاء والظهور ، حتى من معلم ( الجهلاء ). انتهى .

الفذلكة:وفذلكة تلك الأبحاث : أن الزواج ـ الذي هو علقة بين المرء والمرأة ، وربط خاص له آثار خاصة ـ يحدث بالعقد الخاص من الإيجاب والقبول بشرائط معلومة .

فان وقع العقد مرسلاً مطلقاً ، غيرمقيد بمدة ، حدثت الزوجية بطبيعتها المرسلة المطلقة الدائمة المؤبدة ، التي لا ترتفع إلا برافع من طلاق ونحوه .

وإن قيد العقد بأجل معين ، من يوم أو شهر أو نحوهما ، حدثت الزوجية الخاصة المحدودة ، وطبيعة الزوجية فيهما سواء ، لا يختلفان إلا في الضيق والسعة ، والطول والقصر ، ويشتركان في كثير من الاثار ، ويمتاز كل منهما عن الآخر في بعضها . وليس الاختلاف من اختلاف الحقيقة ، بل من اختلاف النوع أو التشخص ، كاختلاف الزنجي والرومي في كثير من اللوازم مع وحدة الحقيقة .

ونظير الزوجية المطلقة والمقيدة في الشرع : الملكية التي تحدث بعقد البيع ، وهي عبارة عن علقة تحدث بين الإنسان وعين ذات مالية من الأعيان ، فإن أطلق العقد حدثت الملكية المطلقة اللازمة الدائمة المؤبدة ، التي لا ترتفع إلا برافع اختياري كبيع أو هبة ، أو صلح أو اضطراري ، كفلس أو موت .

وإن قيدت بخيار فسخ أو الإنفساخ حدثت الملكية المقيدة الجائزة المحدودة إلى زمن الفسخ أو الإنفساخ ، وكل هذه المعاني والاعتبارات امور يتطابق عليها العقل والشرع ، والعرف والإعتبار.

فما هذا النكير والنفير ، والنبز والتعبير على الشيعة في أمر المتعة يا علماء الاسلام ، ويا حملة الأقلام !

لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل (50).

أفهل في هذا مقنع مع اختصاره لكم في كف الخصام ، وحصول الوئام ، والإنقياد للحق والاستسلام .

فوعزة الحق ، وشرف الحقيقة ، إني لم أتعصب فيما كتبت إلا للحق ، ولم أتحامل إلا على الباطل ، وحسبنا الله عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.

ولنكتف من مباحث عقود النكاح وأحكامه بهذا القدر. أما نكاح الإماء ، وأحكام الأولاد ، وا لنفقات ، والعدد ، والنشوز ، وأمثالها من المباحث العريضة الطويلة ، فهي موكولة إلى محالها من كتب الإمامية التي برعوا وأبدعوا فيها ، بين مختصر حوى تمام الفقه من الطهارة إلى الحدود والديات في خمسين ورقة بقطع الربع ، وبين مطول ( كالجوامع ) و ( الحدائق ) الذي جمع الفقه في عشرين مجلداً مثل ( البخاري ) و ( صحيح مسلم ). وبين الطرفين أوساط ومتوسطات لا تعد ولا تحصى .


الطلاق:

لقد استجليت من كلماتنا التي مرت عليك قريباً : أن حقيقة الزواج هي عبارة عن علقة وربط خاص يحدث بين الرجل والمرأة ، يصير ما هو فرد من كل منهما ـ بلحاظ نفسه ـ زوجاً بلحاظ انضمام الأخر اليه ، وارتباطه به ، وملابسته معه ملابسة صيرت كلاً منهما قريناً للآخر ، وعدلاً له ، ومتكافئاً معه ، مثل اقتران العينين واليدين ، بل السمعين والبصرين . وبعد أن كان كل منهما مبايناً للآخر ومنفصلاً عنه ، أحدث العقد الخاص ذلك الربط ، وتلك الملابسة التي لا ملابسة فوقها ، ولا يعقل ـ بل لا يمكن ـ أن توجد عبارة تشير الى حقيقة ذلك الربط وعميق آثاره أعلى من قوله تعالى : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن )(51) وهي من آيات الإعجاز والبلاغة ، وفوائد القرآن ومخترعاته ، ولا يتسع المقام لتعداد ما تضمنته من دقائق المعاني ، وأسرار البيان ، وعجيب الصنعة.

وعرفت أن من شأن ذلك الربط وطبيعته ـ مع إرسال العقد وإطلاقه ـ أن يبقى ويدوم إلى الموت ، بل وما بعد الموت ، إلا أن يحصل له رافع يرفعه ، وعامل يزيله ، ولما كانت الحاجة والضرورة ، والظروف والأحوال قد تستوجب حل ذلك الربط ، وفك تلك العقدة ، ويكون من صالح الطرفين أو أحدهما ذلك ، لذلك جعل الشارع الحكيم أسباباً رافعة ، وعوامل قاطعة ، تقطع ذلك الحبل ، وتفصل ذلك الوصل.

فإن كانت النفرة والكراهة من الزوج ، فالطلاق بيده ، وإن كانت من الزوجة فالخلع بيدها ، وإن كان منهما فالمباراة بيدهما . ولكل واحد منها أحكام وشروط ، ومواقع خاصة لا تتعداها ، ولا يقوم سواها مقامها .

ولكن لما كان دين الاسلام ديناً اجتماعياً ، وأساسه التوحيد والوحدة ، وأهم مقاصده الاتفاق والإلفة ، وأبغض الأشياء اليه التقاطع والفرقة ، لذلك ورد في كثير من الأحاديث ما يدل على كراهة الطلاق والردع عنه ، ففي بعض الأخبار ( ما من حلال أبغض إلى الله من الطلاق )(52) .

فكانت الحاجة والسعة على العباد ، وجعلهم في فسحة من الأمر تقتضي بتشريعه ، والرحمة والحكمة ، وإرشاد العباد إلى مواضع جهلهم بالعاقبة ( فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً )(53) كل ذلك يقتضي التحذير منه ، والردع عنه ، والأمر بالتروي والتبصر فيه .

ونظراً لهذه الغاية ، جعل الشارع الحكيم للطلاق قيوداً كثيرة ، وشرط فيه شروطاً عديدة ، حرصاً على تقليله وندرته ( والشيء إذا كثرت قيوده ، عز وجوده ).

فكان من أهم شرائطه ـ عند الإمامية ـ : حضور شاهدين عدلين ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) (54) فلو وقع الطلاق بدون حضورهما كان باطلاً ، وفي هذا أبدع ذريعة ، وأنفع وسيلة ، إلى تحصيل الوئام ، وقطع مواد الخصام بين الزوجين ، فإن للعدول وأهل الصلاح مكانة وتاثيراً في النفوس ، كما أن من واجبهم الإصلاح والموعظة ، وإعادة مياه صفاء الزوجين المتخاصمين إلى مجاريها ، فاذا لم تنجع نصائحهم ومساعيهم في كل حادثة ، فلا أقل من التخفيف والتلطيف ، والتأثير في عدد كثير.
وقد ضاعت هذه الفلسفة الشرعية على إخواننا من علماء السنة ، فلم يشترطوا حضور العدلين ، فاتسعت دائرة الطلاق عندهم ، وعظمت المصيبة فيه ، وقد غفل الكثير منا ومنهم عن تلك الحكم العالية ، والمقاصد السامية ، في أحكام الشريعة الإسلإمية ، والأسرار الإجتماعية ، التي لو عمل المسلمون بها لأخذوا بالسّعادة من جميع أطرافها ، ولما وقعوا في هذا الشقاء التعيس ، والعيش الخسيس ، واختلال النظام العائلي في أكثر البيوت .

ومن أهم شرائط الطلاق أيضاً : أن لا يكون الزوج مكرهاً ومتهيجاً ، أو في حال غضب وانزعاج ، وأن تكون الزوجة طاهرة من الحيض ، وفي طهر لم يواقعها فيه .

وقد اتفقت الإمامية أيضاً على أن طلاق الثلاث واحدة ، فلو طلقها ثلاثاً لم تحرم عليه ، ويجوز له مراجعتها ، ولاتحتاج إلى محلل . نعم ، لو راجعها ثم طلقها وهكذا ثلاثاً حرمت عليه في الطلاق الثالث ، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، ولو طلقها ثم راجعها تسع مرات مع تخلل المحلل حرمت عليه في التاسعة حرمة مؤبدة .

وقد خالف في طلاق الثلاث الأكثر من علماء السنة ، فجعلوا قول الزوج لزوجته : أنت طالق ( ثلاثاً ) يوجب تحريمها ، ولا تحل إلا بالمحلل ، مع أنه قد ورد في الصحاح عندهم ما هو صريح في أن الثلاث واحدة ، مثل ما في البخاري بسنده عن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم . فأمضاه عليهم (55).

والكتاب الكريم أيضاً صريح في ذلك لمن تأمله ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) إلى أن قال جل شأنه : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره )(56) وفي هذا كفاية .

هذا مجمل من أسباب الفراق ، والتفصيل موكول إلى محله .

وهناك أسباب اخرى للفرقة : كالعيوب الموجبة للفسخ في الزوج مثل : العنن ، والجنون ، والجذام ، ونحوها. وفي الزوجة : كالرتق ، والقرن ، ونحوهما ، وكالظهار ، والإيلاء ، مما تجده مستوفى في كتب الفقه ، كما تجد فيها تفاصيل العدد وأقسامها ، من عدة الوفاة ، وعدة الطلاق ، ووطء الشبهة ، وملك اليمين.

والعدة تجب على الزوجة في وفاة الزوج مطلقاً ، حتى اليائسة والصغيرة وغير المدخول بها .

أما في الطلاق ، فتجب على ما عدا هذه الثلاث ، فموت الزوج مطلقا ، والوطء الغير المحرم مطلقاً يوجبان العدة مطلقاً ، إلا في اليائسة والصغيرة .

أما الوطء المحرم ـ كالزنا ـ فلا عدة فيه ، لأن الزاني لا حرمة لمائه .

وعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام إن كانت حائلاً ، وفي الحامل أبعد الأجلين .

وعدة الطلاق ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر ، وفي الحامل وضع الحمل ، وللأمة نصف الحرة .

والطلاق إذا لم يكن ثلاثاً ولا خلعياً فللزوج أن يرجع بها مادامت في العدة ، فاذا خرجت من العدة فقد ملكت أمرها ، ولا سبيل له عليها إلا بعقد جديد.

ولا يعتبر عندنا في الرجعة حضور الشاهدين كما يعتبر ان في الطلاق ، وأن استحب ذلك(57).ولا يعتبر فيها لفظ مخصوص ، بل يكفي كل ما دل عليها حتى الاشارة ، وتعود زوجته له كما كانت .

الخلع والمباراة

لا ينبعث الزوجان إلى قطع علاقة الزوجية بينهما إلا عن كراهة أحدهما للآخر ، أو كراهة كل منهما للآخر ، وهذا هو سبب الفرقة غالباً .

فإن كانت الكراهة من الزوج فقط فالطلاق بيده ، يتخلص به منها إذا أراد ، وإن كانت الكراهة منها خاصة كان لها أن تبذل لزوجها من المال ما تفتدي به نفسها ، سواء كان بمقدار ما دفع لها أو أكثر ، فيطلقها على ما بذلت ، وهذا هو الخلع ، فيقول : فلانة طالق على ما بذلت ، فهي مختلعة .

ويشترط فيه جميع شرائط الطلاق ، وإضافة كون الكراهة منها ، وكونها كراهة شديدة كما يشير اليه قوله تعالى : ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها )(58).

وتفسيره في أخبار أهل البيت : أن تقول لزوجها : لا أبر لك قسماً ، ولا اقيم حدود الله فيك ، ولا أغتسل لك من جنابة ، ولاوطئن فراشك ، وأدخلن بيتك من تكره (59).

ومعلوم أن المراد بهذا ظهور الكراهة الشديدة ، وعدم إمكان الالتئام ، لا خصوص تلك الألفاظ .

وإن كانت الكراهة منهما معا فهي المباراة ، ويعتبر فيها أيضا جميع شرائط الطلاق ، ولا يحل له أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، فيقول لها : بارأِتك على كذا فأنت طالق .

والطلاق في الخلع والمباراة بائن لا رجوع للزوج فيه ، نعم لها أن ترجع في البذل ، فيجوز له الرجوع حينئذ ما دامت في العدة .


الظهار والايلاء واللعان :

هي من أسباب تحريم الزوجة أيضا في الجملة ، وبشرائط مخصوصة مذكورة في كتب الفقه ، لم نذكرها لندرة وقوعها .


الفرائض والمواريث:

الإرث : عبارة عن انتقال مال أو حق من مالكه عند موته إلى آخر ، لعلاقة بينهما من نسب أو سبب . فالحي ، القريب وارث ، والميت موروث ، والاستحقاق إرث ، والنسب هو تولد شخص من اخر أو تولدهما من ثالث.

والوارث إن عين الله سبحانه حقه في كتابه الكريم باحد الكسور التسعة المعروفة فهو ممن يرث بالفرض ، وإلا فيرث بالقرابة.

والفروض المنصوصة بالكتاب الكريم ستة : نصف ، وهو للزوج مع عدم الولد ، وللبنت مع عدمه ، وللأخت كذلك .

ونصفه ، وهو الربع للزوج مع الولد ، وللزوجة مع عدمه .

ونصفه ، وهو الثمن للزوجة مع الولد.

والثلث ، وهو للأم مع عدم الولد ، وللمتعدد من كلالتها.

وضعفه ، الثلثان للبنتين ، فما زاد مع عدم الذكر المساوي ، وللاختين كذلك للأب أو الأبوين .

ونصفه ، وهو السدس لكل واحد من الأبوين مع الولد ، وللأم مع الحاجب وهم الاخوة ، وللواحد من كلالتها ذكرا كان أو انثى .

وما عدا هؤلاء فيرثون بالقرابة ( للذكرمثل حظ الأنثيين )(60) في جميع طبقات الورثة وهي ثلاث : الأبوان والأبناء وإن نزلوا ، ثم الأجداد وإن علوا والاخوة وأن نزلوا ، ثم الأعمام والأخوال وهم اولو الأرحام ، وليس فيهم ذو فرض أصلاً .

ثم إن أرباب الفروض إما أن تساوي فرائضهم المال كأبوين وبنتين « ثلث وثلثين » أو تزيد كأبوين وبنتين وزوج ، فتعول الفريضة ، أي زادت على التركة بربع أو نقصت عنها بربع ، أو تنقص كاخت وزوجة ، ففضل من التركة بعد الفريضة ربع . فالأولى مسألة العول ، والثانية مسألة التعصيب .

وليس في جميع مسائل الارث خلاف يعتد به بين الإمامية وجمهور علماء السنة ، إلا في هاتين المسألتين ، فقد تواتر عند الشيعة عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم أنه : لا عول ولا تعصيب (61).

وهو أيضاً مذهب جماعة من كبراء الصحابة ، وقد اشتهر عن ابن عباس رضي الله عنه : أن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن الفريضة لا تعول (62).

وأن الزائد يرد لذوي الفروض على نسبة سهامهم ، والعصبة بفيها التراب ، فلو اجتمع بنت وأبوان من الأولى ، وأخ وعم من الثانية والثالثة ، فللبنت النصف ، ولكل من الأبوين السدس ، ويفضل السدس من المال ، يرد عندنا على البنت والأبوين بنسبة سهامهم ، وغيرنا من فقهاء المسلمين يورثونه الأخ والعم ، وهم العصبة .

نعم ، لا رد عندنا على زوج أو زوجة ، كم لا نقص عليهما ، أما اذا عالت الفريضة وزادت على المال ـ كالمثال المتقدم ـ فالنقص يدخل على البنت أو البنات ، والاخت والأخوات ، دون الزوج والزوجة وغيرهما .

والضابطة : إن كل ما أنزله الله من فرض إلى فرض فلا يدخله النقص ، ومن لم يكن له إلا فرض واحد كان عليه النقص ، وله الرد. أما الأب ففي دخول النقص عليه وعدمه خلاف ، أما جمهور فقهاء المسلمين فيدخلون النقص على الجميع .
وللامامية على نفي العول والتعصيب أدلة كثيرة من الكتاب والسنة مدوّنة في مواضعها من الكتب المبسوطة.

ومما انفردوا به من أحكام المواريث : الحبوة للولد الأكبر ، فإنهم يخصونه بثياب أبيه ، وملابسه ، ومصحفه ، وخاتمه ، زائداً على حصته من الميراث ، على تفاصيل وشروط مذكورة في بابها .

وانفردوا أيضاً بحرمان الزوجة من العقار ، ورقبة الأرض عيناً وقيمة ، ومن الأشجار والأبنية عيناً لا قيمة. فتعطى الثمن أو الربع من قيمة تلك الأعيان . كل ذلك لأخبار وردت عن أئمتهم سلام الله عليهم ، والأئمة يروونها عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله .

هذه مهمات المسائل الخلافية في الارث ، وما عدا ذلك فالخلاف على قلته في بعض المسائل هو كالخلاف بين فقهاء الجمهور أنفسهم ، وكاختلاف فقهاء الإمامية فيما بينهم .


الوقوف والهبات والصدقات:

المال الذي هو ملك لك وتريد أن تخرجه عن ملكيتك ، فإما أن يكون إخراجه ليس عن ملكك فقط بل عن مطلق الملكية ، بمعنى أنك تجعله غير صالح للملكية أصلاً ، فيكون تحريراً ، وذلك كالعبد تعتقه فيكون حراً ، وكالدار أو الأرض تفكها من الملكية فتجعلها معبداً أو مشهداً . وهذا القسم لا يصلح أن يعود الى الملكية أبداً ، مهما عرضت العوارض ، واختلفت الطوارئ .

وإما أن يكون إخراجه لا عن مطلق الملكية بل عن ملكك إلى ملك غيرك فقط ، وحينئذ فاما أن يكون ذلك بعوض مع التراضي في عقد لفظي ، أو ما يقوم مقامه ، فتلك عقود المعاوضات كالبيع ، والبيع الوفائي ، والصلح وأمثالها .

وإما أن يكون بغير عوض مالي ، فإن كان بقصد الأجر والمثوبة ولوجه الله فهو الصدقة بالمعنى الأعم ، فإن كان المال مما يبقى مدة معتداً بها ، وقصد المتصدق بقاء عينه ، فحبس العين وأطلق المنفعة ، فهذا هو (الوقف).

وإن كان المال مما لا يبقى ، أو لم يشترط المتصدّق بقاءه فهو ( الصدقة ) بالمعنى الأخص .

وإن كان التمليك لا بقصد الأجر والمثوبة ، بل تمليك مجاني محض ، فهو ( الهبة ) فإن اشترط فيها مقابلتها بهبة في ( الهبة المعوضة ) كما لو قال : وهبتك الثوب بشرط أن تهبني الكتاب ، فقال : قبلت . وهي لازمة ، لا يجوز لأحدهما الرجوع بهبته إلا إذا تراضيا على التفاسخ والتقايل ، وإلا فهي ( الهبة الجائزة ) .

ولا يصح شيء من أنواع الهبات إلا بالقبض ، ويجوز الرجوع في الهبات الجائزة حتى بعد القبض ، إلا إذا كانت لذي رحم ، وزوج أو زوجة ، أو بعد التلف .

أما الصدقات ، فلا يجوز الرجوع في شيء منها بعد القبض ، ولا تصح أيضاً إلا بالقبض .

وإذا أجرى الواقف صيغة الوقف ، وهي قوله : وقفت هذه الدار ـ مثلاً ـ قربة إلى الله تعالى ، ثم أقبضه المتولي أو الموقوف عليهم ، أو قبضه هو بنية الوقف ، إذا كان قد جعل التولية لنفسه فحينئذ لا يجوز الرجوع فيه أصلاً ، ولا بيعه ، ولا قسمته ، سواء كان وقف ذرية وهو ( الوقف الخاص ) أو وقف جهة وهو ( الوقف العام ) كالوقف على الفقراء ، والغرباء ، والمدارس ، وأمثالها .

نعم ، قد يصح البيع في موارد استثنائية تلجى إليها الضرورة المحرجة ، يجمعها خراب الوقف خراباً لا ينتفع به منفعة معتداً بها ، أو خوف أن يبلغ خرابه إلى تلك المرتبة ، أو وقوع الخلاف بين أربابه بحيث يخشى أن يؤدي إلى تلف الأموال أو النفوس أو هتك الأعراض .

ومع ذلك كله لا يجوز بيع الوقف بحال من الأحوال ، ولا قسمته إلا بعد عرض المورد الشخصي على الحاكم الشرعي ، وإحاطته بالموضوع من جميع جهاته ، وصدور حكمه بالبيع أو القسمة لحصول المسوغ الشرعي ، وبدون ذلك لا يجوز.

وقد تساهل الناس في أمر الوقف ، وتوسعوا في بيعه وإخراجه عن الوقفية توسعاً أخرجهم عن الموازين الشرعية ، والقوانين المرعية ، والله من وراء القصد ، وهو اللطيف الخبير.

هذا كله على طريقة المشهور ، ولنا تحقيق ونظر آخر في الوقف لا مجال له هنا.


القضاء والحكم:
لولاية القضاء ونفوذ الحكم في فصل الحكومات بين الناس منزلة رفيعة ، ومقام منيع ، وهي عند الإمامية شجن من دوحة النبوة والإمامة ، ومرتبة من الرئاسة العامة ، وخلافة الله في الأرضين ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالعدل ) (63) ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلّوا تسليماً ) (64). كيف لا ، والقضاة والحكام أمناء الله على النواميس الثلاثة : النفوس ، والأعراض ، والأموال . ولذا كان خطره عظيماً ، وعثرته لا تقال ، وفي الأحاديث من تهويل أمره ما تخف عنده الجبال ، مثل قوله عليه السلام : القاضي على شفير جهنم ، ولسان القاضي بين جمرتين من نار»(65) .

« يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي ، أو وصي نبي ، أو شقي » (66).

وفي الحديث النبوي : « من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين » (67).

إلى كثير من نظائرها .

والحكم الذي يستخرجه الفقيه ويستنبطه من الأدلة إن كان على موضوع كلي فهو ( الفتوى ) مثل : إن مال الغير لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن مالكه ، وإن وطء الزوجة حلال ووطء الأجنبية حرام . . .

وإن كان على موضوع جزئي فهو ( القضاء والحكومة ) مثل : إن هذه زوجة ، وتلك أجنبية ، وهذا مال زيد .

وكل منهما من وظائف المجتهد العادل ، الحائز [ على ] منصب النيابة العامة عن الإمام ، سوى أن القضاء ـ الذي هو في الحقيقة عبارة عن تشخيص الموضوعات مع المرافعة والخصومة أو بدونها ، كالحكم بالهلال ، والوقف ، والنسب ، ونحوها ـ يحتاج إلى لطف قريحة ، وقوة حدس ، وعبقرية ذكاء ، وحدة ذهن ، أكثر مما تحتاجه الفتوى واستنباط الأحكام الكلية بكثير ، ولو تصدى له غير الحائز لتلك الصفات كان ضرره أكبر من نفعه ، وخطأه أكثر من صوابه .

أما تصدي غير المجتهد العادل ـ الذي له أهلية الفتوى ـ فهو عندنا معشر الإمامية من أعظم المحرمات ، وأفظع الكبائر ، بل هو على حد الكفر بالله العظيم ، بل رأينا أعاظم علماء الإمامية من أساتيذنا الأعلام يتورعون من الحكم ، ويفصلون الحكومات غالباً بالصلح ، ونحن لا نزال غالباً على هذه الوتيرة اقتداء بسلفنا الصالح .

ثم أن امهات أسباب الحكم والخصومات والحقوق ثلاثة : الاقرار ، البينة ، اليمين . والبينة هي الشاهدان العادلان ، وإذا تعارضت البينتان ـ أو البينات ـ فخلاف عظيم في تقديم بينة الداخل والخارج ، أو الرجوع إلى المرجحات .

وقد أفرد الكثير من فقهائنا للقضاء مؤلفات مستقلة في غاية البسط والإحاطة ، سوى ما دونوه في الكتب المشتملة على تمام أبواب الفقه ، ولا يسعنا بأن نأتي بأقل قليل منه ، فضلاً عن الكثير ، وقد ذكرنا جملة صالحة من هذه المباحث في الجزء الرابع من ( تحرير المجلة ) فليرجع إليه من شاء .

وإذا حكم الحاكم الجامع للشرائط المتقدمة فالراد عليه ، والمتخلف عن اتباع حكمه راد على الله تعالى ، ولا يجوز لغيره بعد حكمه أن ينظر في تلك الدعوى . نعم له أن يعيد النظر فيها بنفسه ، فاذا تبينّ له الخلل نقض حكمه بالضرورة .

____________
(1) النور 24 : 32 .
(2) النساء 4 : 24 .
(3) انظر : جامع البيان للطبري 5 : 9 ، التفسير العظيم لابن كثير 1 : 474 ، تفسير الكشاف للزمخشري 1 : 519 ، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 2 : 147 ، السنن الكبرى للبيهقي 7 : 205.
(4) جامع البيان للطبري 5 : 9.
(5) أقوال القوم هنا متضاربة ومتعارضة أشد التعارض ، فمنهم من يذهب إلى أنها ابيحت ثم نهي عنها يوم خيبر ، وآخر أنها كانت مباحة وحرمت عام الفتح ، وثالث أنها ابيحت وحرمت في حجة الوداع ، ورابع أنها أبيحت عام أوطاس ثم حرمت . . . وهكذا ، فراجع .

انظر : صحيح مسلم باب نكاح المتعة ، مجمع الزوائد 4 : 264 ، سنن ابي داود 2 : 227 ، طبقات ابن سعد 4 : 348 ، سنن البيهقي 4 : 348 ، مصنف ابن أبي شيبة 4 : 292 ، فتح الباري 11 : 73 ، سنن الدارمي 2 : 140 ، سنن ابن ماجة حديث 1962 . (2) الطلاق 65 : 1.
(6) انظر : الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5 : 130 ، التفسير الكبير للرازي 10 : 49 ، سنن البيهقي 207:7.
(7) النساء 12:4.
(8) انظر الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5 : 130 ، التفسير الكبير للرازي 10 : 50 .
(9) المؤمنون 23 : 6 ، والمعارج 0 7 : 30.
(10) انظر : سنن الترمذي 50:5 ، سنن البيهقي 7 : 206 ، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5: 130 ، التفسير الكبير للرازي 10 : 50 ، المبسوط للسرخسي 5 : 152.
(11) روح المعاني 5 : 7.
(12) أنظر : الكشف عن وجوه القراءآت السبع 1 : 375 ، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5 : 1 ، الكشاف للزمخشري 1 : 492 .
(13) انظر : الكشف عن وجوه القراءات السبع 2 :125 و 334 ، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 12 : 102 و 18 : 278 ، الكشاف للزمخشري 3 : 24 و 4 : 456 .
(14) الكشاف 1 : 519 .
(15) الدر المنثور للسيوطي 2 : 140 .
(16) صحيح االبخاري 7 : 12 ، صحيح مسلم 2 : 1023|18 و1027|29 ، 30. وتقدمت الأشارة إلى ذلك ، فراجع. .
(17) شرح صحيح مسلم للنووي 9 : 1 8 1 ، التفسير العظيم لابن كثير 1 : 474 .
(18) سنن ابي داود 2 : 227 ، سنن البيهقي 4 : 348 ، طبقات ابن سعد 4 : 348.
(19) الجامع للأحكام القرآن للقرطبي 5 : 130 ، سنن البيهقي 7 : 207 ، مجمع الزوائد 4 : 266 ، فتح الباري 11 : 73 .
(20) صحيح مسلم 2 : 1023 .
(21) صحيح مسلم 2 : 1025 ، سنن البيهقي 7 : 202 ، سنن الدارمي 2 : 140 ، مجمع الزوائد 4 : 264 ، مصنف ابن أبي شيبة 4 : 2 29 .
(22) صحيح مسلم 2 : 1025 ، سنن البيهقي 7 : 202 .
(23) سنن ابن ماجة 1 : 630|1961 ، صحيح مسلم 2 : 1027.

والغريب أن القوم عند محاولتهم لايراد الادلة التي يحتجون بها لاثبات مدعاهم بتحريم نكاح المتعة لم يلتفتوا إلى كثير من مواضع الخلل البينة في استدلالاتهم ومحاجاتهم ، بل والى مواضع التهافت البينة فيها ، ومن ذلك قولهم بتحريمها في غزوة خيبر ، حيث يظهر بطلان ذلك من عدة وجوه ، لعل أوضحها ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد ( 2 : 158 و 204 ) في معرض رده لهذا الرأي السقيم ، حيث قال ـ : وقصة خيبر لم يكن الصحابة يتمتعون باليهوديات ، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة ، ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة ، لا فعلاً ولا تحريماً. . . فان خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنما كن يهوديات ، واباحة نساء أهل الكتاب لم يكن ثبت بعد ، إنما ابحن بعد.. . فتأمل .
(24) شرح صحيح مسلم للنووي 9 : 180 .
(25) صحيح البخاري 6 : 33 ، وانظر كذلك : صحيح مسلم 2 : 900|172 ، التفسير الكبير للرازي 5 1 : 49 ، تفسير البحر المحيط لابن حيان 3 : 218 ، السنن الكبرى للبيهقي 5 : 20.
(26) صحيح مسلم 2 : 15/1023.
(27) صحيح مسلم 2 : 1023|16 .
(28) صحيح مسلم 2 : 1023|17 .
(29) صحيح مسلم 2 : 22/1025 .
(30) المصنف لعبدالرزاق 7 : 501 ، الكشاف للزمخشري 1 : 519 .
(31) صحيح مسلم 2 : 1026|27 ، سنن البيهقي 7 : 5 0 2.
(32) أي قليل من الناس ، وقيل : الا خطبتة قليلة من الناس لا يجدون ما يستحلون به الفروج .

انظر : الصحاح 6 : 2393 ، لسان العرب 14 : 437 .
(33) جامع البيان للطبري 5 : 9 ، وانظر كذلك : التفسير الكبير للرازي 10 : 50 ، تفسير البحر المحيط لابن حيان 3 : 218 ، الدر المنثور 2 : 140 .
(34) راجع كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي رحمه الله تعالى ( 21 :5 ـ 80 ) فقد أورد الكثير من الاحاديث المبينة لاحكام هذا النوع من النكاح وشروطه ، وأما الحديث المذكور أعلاه فقد وجدته مروياً بصيغة مختلفة ، ولعل ذلك مرجعه السهو أو التصحيف . راجع الفقيه 1 : 48|95 .

(35) انظر : السنن الكبرى للبيهقي 7 : 206 ، زاد المعاد لابن قيم الجوزي 3 : 463 ، المبسوط للسرخسي 27:4 .
(36) الحاقة 69 : 44 ـ 47 .
(37) في شرح مسلم المسمى باكمال المعلم للوشتاني الآبي قوله في شأن عمرو بن حريث : قيل : كان نهيه عن ذلك في آخر خلافته ، وقيل : في أثنائها. وقال [ أي عمر بن الخظاب] : لا يؤتى برجل تمتع وهو محصن إلا رجمته ، ولا برجل تمتع وهو غير محصن إلا جلدته . وقضية عمرو بن حريث : أنه تمتع على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودام ذلك حتى لخلافة عمر ، فبلغه ذلك فدعاها فسألها فقالت : نعم ، قال : من شهد ؟ قال عطاء : فأراها قالت أمها وأباها ، قال : فهلا غيرهما . فنهى عن ذلك . إنتهى « منه قدس سره » .
(38) الهنابث : جمع هنبثة ، وهي الامر الشديد .

الصحاح 1 : 296 .
(39) محاضرات الادباء 3 : 214 .
(40) محاضرات الادباء 3 : 214 .
(41) سنن الترمذي 3 : 185|824 .

(42) النساء 4 : 24 .
(43) السرائر2 : 618ـ 620.

(44) البقرة 2 :185.
(45) الحج 2 : 78 .
(46) الاعراف 7 : 96 .
(47) النهاية 2 : 488 ، الفائق 2 : 255 .
(48) البقرة 2 : 61 .
(49) صحيح البخاري 5 : 192 ، سنن ابي داود 2 : 282|2273 ، سنن ابن ماجة 2 : 647| 2006و 2007 ، سنن الترمذي 3 : 463|1157 .
(50) صدر بيت شعري ذهب مثلاً ، وهو:

لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل * ما أحسن الموت إذا حان الأجل

ويضرب مثلاً لمن ناصره من ورائه .

والهيجاء : الحرب . وحمل : اسم رجل شجاع كان يستظهر به في الحرب ، ولعله ـ كما قيل ـ حمل بن بدر ، صاحب الغبراء.

انظر المستقصى في أمثال العرب 2 : 278 / 969 ، جمهرة الأمثال 2 : 206|1546 .

(51) البقرة 2 : 187 .
(52) أنظر : الكافي 6 : 54|2 و 3 .
(53) النساء 4 : 19 .
(54) الطلاق 65 : 2 .
(55) لم أجده في صحيح البخاري ، بل في صحيح مسلم 2 : 15/1099 ، وفي مسند أحمد 1 : 314.
(56) البقرة 2 : 9 2 2 ـ 0 23 .
(57) أهدى الينا هذا العام العلامة المتبحر الاستاذ أحمد محمد شاكر ، القاضي الشرعي بمصر ـ إيده الله ـ مؤلفه الجليل : ( نظام الطلاق في الاسلام ) فراقني وأعجبني ، ووجدته من أنفس ما أخرجه هذا العصر من المؤلفات ، فكتبت اليه كتابا نشره هو ـ حفظه الله ـ في مجلة ( الرسالة ) الغراء ( عدد 157 ) بعد تمهيد مقدمة قال فيها :

ومن أشرف ما وصل إلي وأعلاه ، كتاب كريم من صديقي الكبير ، واستاذي الجليل ، شيخ الشريعة ، وإمام مجتهدي الشيعة بالنجف الأشرف ، العلامة الشيخ محمد حسين ال كاشف الغطاء ، فقد تفضل ـ حفظه الله ـ بمناقشة رأيي في مسألة من مسائل الكتاب ، وهي ( مسألة اشتراط الشهود في صحة مراجعة الرجل مطلقته ) فإنني ذهبت إلى : اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق ، وأنه اذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ، ولم يعتد به . وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة ، إلا أنه يؤيده الدليل ، ويوافق مذهب الأئمة من أهل البيت والشيعة الامامية .

وذهبت أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة ، وهو يوافق أحد قولين للامام الشافعي يخالف مذهب أهل البيت والشيعة ، واستغربت من قولهم أن يفرقوا بينهما ، والدليل واحد فيهما ، فرأى الاستاذ ـ بارك الله فيه ـ أن يشرح لي وجهة نظرهم في التفريق بينهما فقال :

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد والمجد

من النجف الأشرف ( 8 صفر1355 ) الى مصر.

لفضيلة الاستاذ العلامة ، المتبحر النبيل ، الشيخ أحمد محمد شاكر المحترم أيده الله .

سلامة لك وسلام عليك .

وصلتني هديتك الثمينة ( رسالة نظام الطلاق في الاسلام ) فامعنت النظر فيها مرة ، بل مرتين ، إعجاباً وتقديراً لما حوته من غور النظر ، ودقة البحث ، وحرية الفكر ، وإصابة هدف الحق والصواب ، وقد استخرجت لباب الأحاديث الشريفة ، وأزحت عن محيا الشريعة الوضاء أغشية الأوهام ، وحطمت قيود التقليد الذميمة ، وهياكل الجمود بالأدلة القاطعة ،

والبراهين الدامغة ، فحياك الله ، وحيا ذهنك الوقاد ، وفضلك الجم .

وامهات مباحث الرسالة ثلاث :

(1) طلاق الثلاث .

(2) الحلف بالطلاق والعتاق .

(3) الاشهاد على الطلاق .

وكل واحدة من هذه المسائل قد وفيتها حقها من البحث ، وفتحت فيها باب الاجتهاد الصحيح على قواعد الفن ، ومدارك الاستنباط القويم ، من الكتاب السنة ، فانتهى بك السير على تلك المناهج القويمة إلى مصاف الصواب ، وروح الحقيقة ، وجوهر الحكم الإلهي ، وفرض الشريعة الاسلامية ، وقد وافقت آراؤك السديدة في تلك المسائل ما اتفقت عليه الامامية من صدر الاسلام الى اليوم ، ولم يختلف منهم اثنان ، حتى أصبحت عندهم من الضروريات .

كما اتفقوا على عدم وجوب الاشهاد على الرجعة ، مع اتفاقهم على لزومه في الطلاق ، بل الطلاق باطل عندهم بدونه .

وقد ترجح عندك قول من يقول بوجوب الاشهاد فيهما معا ، فقلت ( في صفحة 120 ) : وذهبت الشيعة الى وجوب الاشهاد في الطلاق ، وأنه ركن من أركانه كما في كتاب ( شرائع الاسلام ) ولم يوجبوه في الرجعة ، والتفريق بينهما غريب ولا دليل عليه ، انتهى .

وفي كلامك هذا ـ أيدك الله ـ نظر ، أستمحيك السماح في بيانه ، وهو : إن من الغريب ـ حسب قواعد الفن ـ مطالبة النافي بالدليل والأصل معه ، وإنما يحتاج المثبت الى الدليل ، ولعلك ـ ثبتك الله ـ تقول : قد قام الدليل عليه ، وهو ظاهر الآية على ما ذكرته في صفحة (118) حيث تقول : والظاهر من سياق الآية إن قوله تعالى ( وأشهدوا ) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معا. . . إلى آخر ما ذكرت .

وكأنك ـ أنار الله برهانك ـ لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الامعان في غير هذا المقام ، وإلا لما كان يخفى عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه ، حتى أنها قد سميت بسورة الطلاق ، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى : ( إذا طلقتم النساء ) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة ، أي لا يكون في طهر المواقعة ولا في الحيض ، ولزوم احصاء العدة ، وعدم اخراجهن من البيوت ، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة من خلال بيان أحكام الطلاق ، حيث قال عز شأنه : ( فاذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ) أي اذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم امساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة ، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق ، فقال : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) أي في الطلاق الذي سبق الكلام لبيان أحكامه .

ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً واستطراداً ، ألا ترى لو قال القائل : اذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه ، وأن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه ، ويجب [ عليك ] المشايعة وحسن الموادعة ، فإنك لا تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم لا له ولخادمه ورفيقه ، وإن تاخرا عنه . وهذا لعمري ـ حسب القواعد العربية والذوق السليم ـ جلي واضح ، لم يكن ليخفى عليك ـ وأنت خريت العربية ـ لولا الغفلة ، والغفلات تعرض للأريب .

هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الاية الكريمة ، وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار ، من حيث الحكمة الشرعية ، والفلسفة الاسلامية ، وشموخ مقامها ، وبعد نظرها في أحكامها ، وهو : أن من المعلوم أنه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق ، ودين الاسلام كما تعلمون جمعي اجتماعي ، لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة ، ولا سيما في العائلة والاسرة ، وعلى الأخص في الزوجية بعد ما أفضى كل منهما إلى اللآخر بما أفضى . فالشارع ـ بحكمته العالية ـ يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة ، فكثر قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة من أن الشيء اذا كثرت قيوده عز ، أو قل وجوده ، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أولاً ، وللتأخير والاناءة ثانياً ، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندها يحصل الندم ، ويعودان إلى الالفة كما اشير اليه بقوله تعالى : ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً ) وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم ، مضافاً إلى الفوائد الآخر :

وهذا كله بعكس قضية الرجوع فان الشارع يريد التعجيل به ، ولعل للتأخير آفات ، فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط تصح عندنا معشر الامامية بكل ما دل عليه من قول أو فعل أو اشارة .

ولا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق ، كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده ، والرغبة الأكيدة في إلفتهم وعدم تفرقهم . وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الاشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع ، وهي ـ أي المطلقة الرجعية ـ عندنا معشر الإمامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدة ، ولذا ترثه ويرثها ، وتغسله ويغسلها ، وتجب عليه نفقتها ، ولا يجوز أن يتزوج باختها وبالخامسة ؟ إلى غير ذلك من أحكام الزوجية .

فهل في هذه كلها مقنع لك في صحة ما ذهبت اليه الإمامية من عدم وجوب الاشهاد في الرجعة بخلاف الطلاق ؟ فإن استصوبته حمدنا الله وشكرناك ، وإلا فانا مستعد للنظر في ملاحظاتك وتلقيها بكل ارتياح ، وما الغرض إلا إصابة الحقيقة ، واتباع الحق أينما كان ، ونبذ التقليد الأجوف والعصبية العمياء ، أعاذنا الله وإياكم منها ، وسدد خطواتنا عن الخطأ والخطيئات إن شاء الله ، ونسأله تعالى أن يوفقكم لأمثال هذه الآثار الخالدة ، والأثريات اللامعة ، والمآثر الناصة ، ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً ) ولكم في الختام أسنى تحية وسلام من :

ملاحظة : ومن جملة المسائل التي أجدت فيها البحث والنظر : بطلان طلاق الحائض ، وقد غربلت حديث ابن عمر بغربال الدقيق ، وهذه الفتوى أيضاً مما اتفقت عليه الامامية ، وهي : بطلان طلاق الحائض إلا في موارد استثنائية معدودة .

هذا هو نص كتاب الاستاذ شيخ الشريعة ، لم أحذف منه شيئاً إلا كلمة خاصة لا علاقة لها بالموضوع ، وإنما هي عن تفضله باهداء بعض كتبه الي ، وساحاول أن ابين وجهة نظري ، وأناقش استاذي فيما رآه وأختاره بما يصل اليه جهدي في عدد قادم إن شاء الله .



هذا تمام ما نشره فضيلة القاضي في ذلك العدد ، ثم تعقبه في عدد ( 159 ) وعدد ( 160 ) بمقالين أسهب فيهما بعض الاسهاب ، مما دل على طول باع ، وسعة اطلاع ، واستفراغ وسع ، في تأييد نظريته ، وتقوية حجته ، وكتبنا الجواب عنهما ، وأعرضنا عن ذكر تلك المساجلات هنا ، خوف الاطالة والخروج عن وضع هذه الرسالة التي أخذنا على أنفسنا فيها بالايجاز ، فمن أراد الوقوف عليها فليراجع أعداد مجلة ( الرسالة ) الغراء يجد في مجموعات تلك المراجعات فوائد جمة ، وقواعد لعلها في الفقه مهمة . وإن الحقيقة منتهى القصد . « منه تقدس سره » .

(58) البقرة 2 : 229 .
(59) انظر : تفسير العياشي 1 : 117|367 ، تفسير القمي 1 :75 ، مجمع البيان في تفسير القران 1 : 329 .
(60) النساء 4 : 11 .
(61) انظر : علل الشرائع : 568|2 ، عيون أخبار الامام الرضا عليه السلام 2 :5 2 1 .
(62) علل الشرائع : 568|3.
(63) سورة ص 38 : 26 .
(64) النساء 4 : 65.
(65) التهذيب 6 : 292|808 .
(66) الكافي 7 : 456|2 ، الفقيه 3 :322315 ، المقنع : 32 1 .
(67) المقنعة : 721 ، سنن ابي داود 3 : 298|3571 ، سنن الترمذي3 : 614|1325 ، سنن ابن ماجة 2 : 84|2308 ، مسند أحمد 2 : 230 .
 

عنوان الکتاب