وظائف العقل |
الأول : في وظائف العقل .
التوحيد :
يجب على العاقل ـ بحكم عقله عند الإمامية ـ تحصيل العلم والمعرفة بصانعه ،
والإعتقاد بوحدانيته في الالوهية ، وعدم شريك له في الربوبية ، واليقين بأنه هو
المستقل بالخلق والرزق والموت والحياة والإيجاد والإعدام ، بل لا مؤثر في الوجود
عندهم إلا الله ، فمن اعتقد أن شيئاً من الرزق أو الخلق أو الموت أو الحياة لغير
الله فهو كافر مشرك خارج عن ربقة الاسلام .
وكذا يجب عندهم إخلاص الطاعة والعبادة لله ، فمن عبد شيئاً معه ، أو شيئاً دونه ، أو ليقربه زلفى إلى الله فهو كافر عندهم أيضاً .
ولا تجوز العبادة إلا لله وحده لا شريك له ، ولا تجوز الطاعة إلا له ، وطاعة الأنبياء والأئمة عليهم السلام فيما يبلغون عن الله طاعة الله ، ولكن لا يجوز عبادتهم بدعوى أنها عبادة الله ، فانها خدعة شيطانية ، وتلبيسات إبليسية .
نعم ، التبرك بهم ، والتوسل إلى الله بكرامتهم ومنزلتهم عند الله ، والصلاة عند مراقدهم لله ، كله جائز ، وليس من العبادة لهم بل العبادة لله ، وفرق واضح بين الصلاة لهم والصلاة لله عند قبورهم ( في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه )(1) .
هذه عقيدة الإمامية في التوحيد ـ المجمع عليها عندهم ـ على اختصار وإيجاز ، ولعل الأمر في التوحيد أشد عندهم ممّا ذكرناه ، وله مراتب ودرجات ، كتوحيد الذات ، وتوحيد الصفات ، وتوحيد الأفعال ، وغير ذلك مما لا يناسب المقام ذكرها وبسط القول فيها.
النبوة :
يعتقد الشيعة الإمامية : أن جميع الأنبياء الذين نص عليهم القرآن الكريم رسل من
الله ، وعباد مكرمون ، بعثوا لدعوة الخلق الى الحق ، وأن محمداً صلى الله عليه وآله
خاتم الأنبياء ، وسيد الرسل ، وأنه معصوم من الخطأ والخطيئة ، وأنه ما ارتكب
المعصية مدة عمره ، وما فعل إلا ما يوافق رضا الله سبحانه حتى قبضه الله إليه .
وأن الله سبحانه أسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، ثم عرج من هناك بجسده الشريف الى ما فوق العرش والكرسي وما وراء الحجب والسرادقات ، حتى صار من ربه قاب قوسين أو أدنى .
وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي ، ولتعليم الأحكام ، وتمييز الحلال من الحرام ، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة ، وعلى هذا إجماعهم ، ومن ذهب منهم ـ أو من غيرهم من فرق المسلمين ـ الى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطىء يرده نص الكتاب العظيم ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (2).
والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة ، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، فإما أن تأول بنحو من الاعتبار ، أو يضرب بها الجدار.
ويعتقد الإمامية أن كل من اعتقد أو
ادعى نبوة بعد محمد صلى الله عليه وآله ، أو نزول وحي أو كتاب فهو كافر يجب قتله .
الامامة :
قد أنباناك أن هذا هو الأصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق
المسلمين ، وهو فرق جوهري أصلي ، وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع
بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما.
وعرفت أن مرادهم بالإمامة : كونها منصبا إلهياً يختاره الله بسابق علمه بعباده ، كما يختار النبي ، ويأمر النبي بان يدل الأمة عليه ، ويأمرهم باتباعه .
ويعتقدون : أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علي عليه السلام وينصبه علماً للناس من بعده ، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس ، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره ، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم ، وإلى اليوم ، ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض ، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك فاوحى اليه : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته )(3) ، فلم يجد بداً من الإمتثال بعد هذا الإنذار الشديد ، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم ، فنادى ـ وجلهم يسمعون ـ : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » ؟ .
فقالوا : اللهم نعم .
فقال : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » . . . الى آخر ما قال (4). ثم أكد ذلك في مواطن اخرى تلويحاً وتصريحاً ، إشارة ونصاً ، حتى أدى الوظيفة ، وبلغ عند الله المعذرة .
ولكن كبار المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله تأولوا تلك النصوص ، نظراً منهم لصالح الإسلام ـ حسب اجتهادهم ـ فقدموا وأخروا ، وقالوا : الامر يحدث بعده الأمر.
وامتنع علي وجماعة من عظماء الصحابة عن البيعة أولاً ، ثم رأى [ أن ] امتناعه من الموافقة والمسالمة ضرر كبير على الإسلام ، بل ربما ينهار عن أساسه ، وهو بعد في أول نشوئه وترعرعه ، وأنت تعلم أن للاسلام عند أمير المؤمنين عليه السلام من العزة والكرامة ، والحرص عليه والغيرة ، بالمقام الذي يضحي له بنفسه وأنفس مالديه ، وكم قذف بنفسه في لهوات المنايا تضحية للاسلام . وزد على ذلك أنه رأى الرجل الذي تخلف على المسلمين قد نصح للاسلام ، وصار يبذل جهده في قوته وإعزازه ، وبسط رايته على البسيطة ، وهذا أقصى ما يتوخاه أمير المؤمنين من الخلافة والإمرة ، فمن ذلك كله تابع وبايع (5) ، حيث رأى أن بذلك مصلحة الإسلام ، وهو على منصبه الإلهي من الإمامة ، وان سلم لغيره التصرف والرئاسة العامة ، فإن ذلك المقام مما يمتنع التنازل عنه بحال من الأحوال .
أما حين انتهى الأمر إلى معاوية ، وعلمم أن موافقته ومسالمته وإبقائه والياً
ـ فضلاً عن الإمرة ـ ضرر كبير ، وفتق واسع على الاسلام ـ لا يمكن بعد ذلك رتقه ـ لم يجد بُداً من حربه ومنابذته .
والخلاصة : أن الإمامية يقولون : نحن شيعة علي وتابعوه ، نسالم من سالمه ، ونحارب من حاربه ، ونعادي من عاداه ، ونوالي من والاه ، إجابة وامتثالا لدعوة النبي صلى الله عليه وآله : « اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداهُ » .
وحبنا وموالاتنا لعلي عليه السلام
وولده إنما هي محبة وموالاة للنبي صلى الله عليه واله وإطاعه له .
تالله ما جهل الأقوام موضعها * لكنهم ستروا وجه الذي علموا وهذا كله أيضاً خارج عن القصد ، فلنعد إلى ما كنا فيه من إتمام حديث الإمامية ، فنقول : إن الإمامية تعتقد أن الله سبحانه لا يخلي الأرض من حجة على العباد ، من نبي أو وصي ، ظاهر مشهور ، أو غائب مستور ، وقد نص النبي صلى الله عليه وآله وأوصى إلى علي ، وأوصى علي ولده الحسن ، وأوصى الحسن أخاه الحسين ، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليهم السلام وهذه سنة الله سبحانه في جميع الأنبياء ، من آدمهم إلى خاتمهم .
وقد ألف جم غفير من أعاظم علماء الدين مؤلفات عديدة في إثبات الوصية ، وها أنا اورد لك أسماء المؤلفين في الوصية ، من القرون الأولى والصدر الأول قبل القرن الرابع :
( كتاب الوصية ) لهشام بن الحكم المشهور.
( الوصية ) للحسين بن سعيد .
( الوصية ) للحكم بن مسكين .
( الوصية ) لعلي بن المغيرة .
( الوصية ) لعلي بن الحسين بن الفضل .
( كتاب الوصية ) لمحمد بن علي بن الفضل .
( كتاب الوصية ) لابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال .
( الوصية ) لأحمد بن محمد بن خالد البرقي ، صاحب المحاسن .
( الوصية ) للمؤرخ الجليل عبدالعزيز بن يحيى الجلودي .
وأكثر هؤلاء من أهل القرن الأول والثاني ، أمّا أهل القرن الثالث فهم جماعة كثيرة أيضاً :
( الوصية ) لعلي بن رئاب .
( الوصية ) لعيسى (6) بن المستفاد .
( الوصية ) لمحمد بن أحمد الصابوني .
( الوصية ) لمحمد بن الحسن بن فروخ .
( كتاب الوصية والإمامة ) للمؤرخ الثبت الجليل علي بن الحسين المسعودي ، صاحب مروج الذهب .
( الوصية ) لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي .
( الوصية ) لمحمد بن علي الشلمغاني المشهور.
( الوصية ) لموسى بن الحسن بن عامر.
أما ما ألف بعد القرن الرابع فشيء لا يستطاع حصره .
وذكر المسعودي في كتابه المعروف بـ (
إثبات الوصية ) لكل نبي اثني
عشر وصياً ، ذكرهم باسمائهم ، ومختصر من تراجمهم ، وبسط الكلام بعض البسط في
الأئمة الاثني عشر. وقد طبع في إيران طبعة غير جيدة(7)
.
هذا ما ألفه العلماء في الإمامة ، لاقامة الأدلة العقلية والنقلية عليها ، ولسنا بصدد شيء من ذلك ، نعم في قضية المهدي عليه السلام قد تعلو نبرات الاستهتار والاستنكار من سائر فرق المسلمين ـ بل ومن غيرهم ـ على الإمامية في الإعتقاد بوجود إمام غائب عن الأبصار ليس له أثر من الآثار ، زاعمين أنه رأي فائل ، وعقيدة سخيفة . والمعقول من إنكارهم يرجع إلى أمرين :
الأول : استبعاد بقائه طول هذه المدة التي تتجاوز الألف سنة ، وكأنهم ينسون أو يتناسون حديث عمر نوح الذي لبث في قومه بنص الكتاب ألف سنة إلا خمسين عاما(8) ، وأقل ما قيل في عمره : ألف وستمائة سنة ، وقيل أكثر إلى ثلاثة آلاف (9).
وقد روى علماء الحديث من السنة لغير
نوح ما هو أكثر من ذلك ، هذا النووي ـ وهو من كبار محدثيهم ـ يحدث في كتابه ( تهذيب
الأسماء ) ما نصه : اختلفوا في حياة الخضر ونبوته ، فقال الأكثرون من العلماء : هو
حي موجود بين أظهرنا ، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة ،
وحكاياتهم في رؤيته ، والاجتماع به ، والأخذ عنه ، وسؤاله وجوابه ، ووجوده في
المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى ، وأشهر من أن
تذكر.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه : هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم ، وإنما شذ بانكاره بعض المحدثين . انتهى(10) .
ويخطر لي أنه قال هو في موضع اخر ، والزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : إن المسلمين متفقون على حياة أربعة من الأنبياء ، إثنان منهم في السماء وهما : إدريس وعيسى ، واثنان في الأرض : الياس والخضر ، وأن ولادة الخضر في زمن إبراهيم أبي الأنبياء(11).
والمعمرون الذين تجاوزوا العمر الطبيعي إلى مئات السنين كثيرون ، وقد ذكر السيد المرتضى في أماليه (12) جملة منهم ، وذكر غيره كالصدوق في ( إكمال الدين )(13) أكثر مما ذكر الشريف وكم رأينا في هذه الأعصار من تناهت بهم الأعمار إلى المائة والعشرين وما قاربها ، أو زاد عليها .
على أن الحق في نظر الاعتبار أن من يقدر على حفظ الحياة يوماً واحداً يقدر على حفظها آلافاً من السنين ، ولم يبق إلا أنه خارق العادة ، وهل خرق العادة والشذوذ عن نواميس الطبيعة في شؤون الأنبياء والاولياء بشيء عجيب أو أمر نادر ؟ !
راجع مجلدات ( المقتطف ) السابقة ، تجد فيها المقالات الكثيرة ، والبراهين الجلية العقلية لأكابر فلاسفة الغرب في إثبات إمكان الخلود في الدنيا للانسان . وقال بعض كبار علماء ، اوروبا : لولا سيف ابن ملجم لكان علي بن أبي طالب من الخالدين في الدنيا ، لأنه قد جمع جميع صفات الكمال والاعتدال . وعندنا هنا تحقيق بحث واسع لا مجال لبيانه .
الثاني : السؤال عن الحكمة والمصلحة في بقائه مع غيبته ، وهل وجوده مع عدم الإنتفاع به إلا كعدمه ؟ .
ولكن ليت شعري هل يريد اولئك القوم أن يصلوا إلى جميع الحكم الربانية ، والمصالح الإلهية ، وأسرار التكوين والتشريع ، ولا تزال جملة أحكام إلى اليوم مجهولة الحكمة ، كتقبيل الحجر الأسود ، مع أنه حجر لا يضر ولا ينفع ، وفرض صلاة المغرب ثلاثاً ، والعشاء أربعاً ، والصبح اثنتين ، وهكذا إلى كثيرمن أمثالها ، وقد استأثر الله سبحانه بعلم جملة أشياء لم يطلع عليها ملكا مقربا ، ولا نبياً مرسلاً ، كعلم الساعة وأخواته ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث )(14) .
وأخفى جملة أمور لم يعلم على التحقيق وجه الحكمة في إخفائها ، كالاسم الأعظم ، وليلة القدر ، وساعة الإستجابة .
والغاية : أنه لا غرابة في أن يفعل سبحانه فعلا أو يحكم حكماً مجهولي الحكمة لنا ، إنما الكلام في وقوع ذلك وتحقيقه ، فإذا صح إخبار النبي وأوصيائه المعصومين عليهم السلام لم يكن بد من التسليم والإذعان ، ولا يلزمنا البحث عن حكمته وسببه ، وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب الوجيز أن لا نتعرض لشيء من الأدلة ، بل هي موكولة إلى مواضعها ، والأخبار في ( المهدي ) عن النبي صلى الله عليه واله من الفريقين مستفيضة ، ونحن وإن اعترفنا بجهل الحكمة ، وعدم الوصول إلى حاق المصلحة ، ولكن كان قد سألنا نفس هذا السؤال بعض عوام الشيعة ، فذكرنا عدة وجوه تصلح للتعليل ، ولكن لا على البت ، فإن المقام أدق وأغمض من ذلك ، ولعل هناك اموراً تسعها الصدور ، ولا تسعها السطور ، وتقوم بها المعرفة ، ولا تأتي عليه الصفة .
والقول الفصل : إنه إذا قامت البراهين في مباحث الإمامة على وجوب وجود الإمام في كل عصر ، وأن الأرض لا تخلو من حجة ، وأن وجوده لطف ، وتصرفه لطف آخر ، فالسؤال عن الحكمة ساقط ، والأدلة في محالها على ذلك متوفرة ، وفي هذا القدر من الإشارة كفاية إن شاء الله .
العدل:
ويراد به : الاعتقاد بان الله سبحانه لا يظلم أحداً ، ولا يفعل ما يستقبحه العقل السليم . وليس هذا في الحقيقة أصلاً مستقلاً ، بل هو مندرج في نعوت الحق ووجوب وجوده المستلزم لجامعيته لصفات الجمال والكمال ، فهو شأن من شؤون التوحيد ، ولكن الأشاعرة لما خالفوا العدلية ، وهم المعتزلة والإمامية ، فانكروا الحسن والقبح العقليين ، وقالوا : ليس الحسن إلا ما حسنه الشرع ، وليس القبح إلا ما قبحه الشرع ، وأنه تعالى لو خلد المطيع في جهنم ، والعاصي في الجنة ، لم يكن قبيحا ، لأنه يتصرف في ملكه ( لا يسئل عمّا يفعلّ وهم يسئلون ) (15).
حتى أنهم أثبتوا وجوب معرفة الصانع ، ووجوب النظر في المعجزة لمعرفة النبي من طريق السمع والشرع لا من طريق العقل ، لأنه ساقط عن منصة الحكم ، فوقعوا في الاستحالة والدور الواضح .
أما العدلية فقالوا : إن الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاً ، ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلا تأكيداً وإرشاداً ، والعقل يستقل بحسن بعض الأفعال وقبح البعض الآخر ، ويحكم بأن القبيح محال على الله تعالى لانه حكيم ، وفعل القبيح مناف للحكمة ، وتعذيب المطيع ظلم ، والظلم قبيح ، وهو لا يقع منه تعالى .
وبهذا أثبتوا لله صفة العدل ، وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات إشارة إلى خلاف الأشاعرة ، مع أن الأشاعرة في الحقيقة لا ينكرون كونه تعالى عادلاً ، غايته : أن العدل عندهم هوما يفعله ، وكل ما يفعله فهو حسن ، نعم أنكروا ما أثبته المعتزلة والإمامية من حكومة العقل ، وإدراكه للحسن والقبح على الحق جل شأنه ، زاعمين أنه ليس للعقل وظيفة الحكم بأن هذا حسن من الله وهذا قبيح منه.
والعدلية بقاعدة الحسن والقبح العقليين ـ المبرهن عليها عندهم ـ أثبتوا جملة من القواعد الكلامية : كقاعدة اللطف ، ووجوب شكر المنعم ، ووجوب النظر في المعجزة . وعليها بنوا أيضاً مسألة الجبر والاختيار ، وهي من معضلات المسائل التي أخذت دوراً مهماً في الخلاف ، حيث قال الأشاعرة بالجبر أو بما يؤدي اليه ، وقال المعتزلة : بأن الإنسان حر مختار له حرية الإرادة والمشيئة في أفعاله .
غايته : أن ملكة الاختيار وصفته كنفس وجوده من الله سبحانه ، فهو خلق العبد وأوجده مختاراً ، فكلي صفة الاختيار من الله ، والاختيار الجزئي في الوقائع الشخصية للعبد ومن العبد ، والله جل شأنه لم يجبره على فعل ولا ترك ، بل العبد اختار ما شاء منهما مستقلاً ، ولذا يصح عند العقل والعقلاء ملامته وعقوبته على فعل الشر ، ومدحه ومثوبته على فعل الخير ، وإلا لبطل الثواب والعقاب ، ولم تكن فائدة في بعثة الأنبياء وإنزال الكتب والوعد والوعيد.
ولا مجال هنا لأكثر من هذا ، وقد بسطنا بعض الكلام في هذه المباحث في آخر الجزء الأول من كتاب ( الدين والاسلام ) (16) وقد أوضحناها بوجه يسهل تناوله وتعقله للأواسط ، فضلاً عن الأفاضل ، وإنما الغرض هنا : أن من عقائد الامامية واصولهم أن الله عادل ، وأن الانسان حر مختار.
المعاد:
يعتقد الامامية ـ كما يعتقد سائر المسلمين ـ : أن الله سبحانه يعيد الخلائق ويحييهم بعد موتهم يوم القيامة للحساب والجزاء ، والمعاد هو الشخص بعينه ـ وبجسده وروحه ـ بحيث لو رآه الرائي لقال : هذا فلان.
ولا يجب أن تعرف كيف تكون الاعادة ، وهل هي من قبيل إعادة المعدوم ، أو ظهور الموجود ، أو غير ذلك .
ويؤمنون بجميع ما في القرآن والسنة القطعية من الجنة والنار ، ونعيم البرزخ وعذابه ، والميزان ، والصراط ، والأعراف ، والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وأن الناس مجزيون باعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر ( فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره )(17). إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في محلها من كل ما صدع به الوحي المبين ، وأخبر به الصادق الأمين .
هذا تمام الكلام في الشطر الأول من شطري الايمان بالمعنى الأخص ، وهو ما يرجع إلى وظيفة العقل والقلب ، ومرحلة العلم والاعتقاد ،
____________
سنن ابن ماجة 1 : 43|116 و45|121 ، سنن الترمذي 5 : 3763/633 ، خصائص
الامام علي عليه السلام للنسائي : 79/96 و 83/99 ، مسند أحمد 1 : 84 ، 88 و 4 : 368
، 372 و5 : 366 ،419 ، تاريخ بغداد 7 : 377 و 8 : 290 و 12 : 343 ، اسد الغابة 2 :
233 و 3 : 3 9 ، الإصابة 1 : 304 ، مستدرك الحاكم 3 : 109 ، 110 ، 116 ، كفاية
الطالب : 64 ، ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 2 : 5|501 ـ 531 ،
الرياض النضرة 2 : 75 1 ، المناقب للمغازلي : 6 1 ـ 26 ، مصنف ابن أبي شيبة 12 :
59/ 12121 ، وغيرها كثير.
(5) تقدم منا
الحديث عن ذلك ، فراجع .
(6)
الطبعات متضاربة في ذلك ، ففي نسختي النجف وايران : يحيى ، وفي نسخة بيروت : محمد ،
وجميعها مصحف ، والصواب : عيسى كما أثبتناه . وهو : أبو موسى البجلي الضرير ، روى
عن أبي جعفر الثاني عليه السلام ، ذكره النجاشي في رجاله ( 297|809 ) وقال : له
كتاب الوصية ، وكذا الطهراني في الذريعة ( 25 : 103|565 ). .
(7) اُعيد طبعه في النجف
الاشرف وايران مع بعض التصحيحات المهمة .
(8)
إشارة إلى قوله تعالى في الاية ( 14) من سورة العنكبوت (
ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف
سنة إلا خمسين عاماً
).
(9)
انظر : تفسير الكشاف للزمخشري 3 : 200 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 : 418 ،
زاد المسير لابن الجوزي 6 : 261 .
(10)
تهذيب الاسماء واللغات 1 : 176 .
(11) تهذيب الاسماء واللغات
1 : 177 ، ربيع الابرار 1 : 397 .
(12) أمالي المرتضى 1 : 232
ـ 72 .
(13)
اكمال الدين :555 ـ 575 .
(14)
لقمان 31 : 34 .
(15) الانبياء 21 : 23 .
(16) يقع الكتاب في
جزءين ، ضمن مؤلفه رحمه الله تعالى الجزء الأول منه ثلاثة فصول تمهد لها خمسة سوانح
يتعرض فيها إلى الأخطار المحيطة بالاسلام ، ومكائد الغربيين له ، وتأثر البعض من
المسلمين بالآراء والمعتقدات الغربية . ثم ينفذ من ذلك إلى تبيان دور العلم والعمل
في رقي الاديان وثبات اصولهما ، مع شرح موجز لماهية الشرف والسعادة ، ودور
الاخلاق في رقي الشعوب ، ونبذ من أقوال الحكماء ومؤلفاتهم ، والاشارة من خلالها إلى
القصور الذي يحيط البعض في كيفية الدعوة الى الأسلام وتبيان عقائده وافكاره ، وغير
ذلك .
والمؤلف رحمه الله تعالى يتعرض في الفصل الأول منه إلى مسالة اثبات الصانع جل اسمه بشكل علمي رصين ، حين يتعرض في فصله الثاني إلى اثبات وحدة الصانع تبارك وتعالى ، ونفي الشريك عنه ، ثم يتناول بالشرح في الفصل الثالث منه ماهية العدل وكيفية القيام به ، بشكل مفصل ومسهب .
وأما الجزء الثاني من الكتاب فقد تعرض المؤلف رحمه الله تعالى فيه إلى ايضاح كلي للنبوة ووجوبها والحاجة إليه ، منطلقاً من خلال ذلك إلى كثير من الجوانب الأخرى المتعلقة بها وصولاً إلى تبيان الاعجاز القراني الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وما يتعلق به.
(17) الزلزلة 99
: 7 ـ 8 .