فرق الغلاة المنقرضة |
ثمَّ يقول : « والنَّصرانية ظهرت في التشيُّع في قول بعضهم أنَّ نسبة الامام الى اللهّ كنسبة المسيح الى الله » ...! !
إنَّ من حقِّ الأمانة على ابن الأمين أنْ يُعيِّن الهدف ، ولا يرسل في غير سدد وبغير سداد ، كان يجب عليه أن يذكر مَنْ هو القائل بهذا القول من الشِّيعة .
فهل مراده ما يسمُّونهم غلاة الشِّيعة
كالخطّابية(1)
والغرابية(2)
والعلياوية(3) والمخمّسة(4)
، والبزيعية(5) وأشباههم من الفرق
الهالكة المنقرضة التي نسبتها الى الشِّيعة من الظلم الفاحش ، وما هي إلاّ من
الملاحدة كالقرامطة(6) ونظائرهم ، أمّا
الشِّيعة الإِمامية وأئمتهم عليهم السلام فيبرأون من تلك الفرق براءة التحريم
(7). على أن تلك الفرق لا تقول بمقالة النصارى ، بل خلاصة مقالتهم ـ بل
صلالتم ـ : أنَّ الامام هو اللهّ سبحانه ظهوراً أو اتحاداً أو حلولاً ، أو نحو ذلك
مما يقول به كثير من متصوَفة الاسلام ومشاهير مشايخ الطرق ، وقد ينقل عن الحلاّج بل
والكيلاني والرفاعي والبدوي وأمثالهم من الكلمات ـ وان شئت فسمِّها كما يقولون
شطحات ـ ما يدل بظاهره على أنَّ لهم منزلة فوق الربوبية ، وأنَّ لهم مقاماً زائداً
عن الالوهية ( لو كان ثمَة موضع لمزيد ) وقريب من ذلك ما يقول به أرباب وحدة الوجود
أو الموجود .
أمّا الشِّيعة الامامية ـ وأعني بهم جمهرة العراق وإيران وملايين من مسلمي الهند ومئات الالوف في سوريا والأفغان ـ فإنّ جميع تلك الطائفة ـ من حيث كونها شيعة ـ يبرأون من تلك المقالات ، ويعدُّونها من أشنع [ أشكال ] الكفر والضلالات ، وليس دينهم إلاّ التوحيد المحض ، وتنزيه الخالق عن كلِّ مشابهة للمخلوق ، أو ملابسة لهم في صفة من صفات النقص والامكان ، والتغيّر والحدوث ، وما ينافي وجوب الوجود والقدم والأزلية ، إلى غير ذلك من التنزيه والتقديس المشحونة به مؤلفاتهم في الكلام ، من مختصرة ( كالتجريد ) أو مطولة ( كالأسفار ) وغيرهما ممّا يتجاوز الالوف ، وأكثرها مطبوع منتشر ، وجلّها يشتمل على إقامة البراهين الدامغة على بطلان التناسخ والاتحاد والحلول والتجسيم .
ولو راجعِ المنصف ـ الذي يمشي وراء الحقائق وفوق العصبية والأغراض ـ شيئاً منها لعرف قيمة قول هذه الناشئة المترعرعة التي قذفتنا بهم أعاصير هذا العصر وتطوّرات هذا الزمن ، نعم يعرف قيمة قذف الشِّيعة بالتناسخ والحلول والتجسيم .
والقصارى : إنّه إنْ أراد بالشِّيعة هم تلك الفرق البائدة ، والمذاهب الملحدة ـ التي لا أحسب أنَّ في رقعة الأرض منهم اليوم نافخ ضرمة ـ فنحن لا نضايقه في ذلك ، ولكن نسبتهم إلى الشِّيعة ظلم فاحش ، وخطأ واضح ، وقد أساء التعبير ، وما أحسنَ البيانَ ، ولم يعط الحقيقة حقَّها.
وانْ أراد بالشِّيعة الطائفة المعروفة اليوم بهذا الاسم [ و ] التي تعدُّ بالملايين من المسلمين ، فنحن نطالبه بإثبات ذلك من مصنَّفات أحد علمائهم من حاضر أو غابر.
وعلى أي حال ، فقد استبان ـ ممَّا ذكرناه ـ أنَّ جميع ما ذكره [ صاحب ] ( فجر الاسلام ) عن الشِّيعة ـ في هذا المقام وغيره ـ تهويل بلا تحصيل ، ودعاو بغير دليل .
ونحن لا نريد في مقامنا هذا أنْ نتعقَب كتاب ( فجر الاسلام ) بالنقد ، وندلّ على جميع خطيئاته ، ومبهرج آرائه واجتهاداته ، وإنَّما ذكرنا هذه النبذة استطراداً في القول ، وشاهداً على صورة حال الشِّيعة عند كتَبَةِ العصر ، ومَنْ ينظمونه في سلك العلماء وأهل الأقلام ، فما ظنّك اذن بالسّواد والعوام ؟!
ومنبع البلية أنَّ القوم الَّذين يكتبون عن الشِّيعة يأخذون في الغالب مذهب الشِّيعة وآحوالهم عن ابن خلدون البربري ، الَّذي يكتب وهو في افريقيا وأقصى المغرب عن الشَيعة في العراق وأقصى المشرق ، أو عن أحمد ابن عبد ربه الأندلسي وأمثالهم .
فإذا أراد كتَبَة العصر أنْ يتضلَّعوا ويتوسَعوا في معرفة الشِّيعة رجعوا إلى كتب الغربيين وكتبة الأجانب كالأستاذ ( ولهوسن ) أو الاستاذ ( دوزي ) وأمثالهم ، وهناك الحجة القاطعة ، والقول الفصل ! ! أمّا الرجوع إلى كتب الشيعة وعلمائهم فذاك ممّا لا يخطر على بال أحدهم .
ولكنَّ الشِّيعي ـ الَّذي هو على بيِّنة من أمره وحقيقة مذهبه ـ إذا نظر إلى ما يكتبه حملة الأقلام ـ في هذه الأيام ـ عن الشِّيعة وعقائدها وجدها من نمط النادرة التي يحدِّثنا بها الراغب الاصفهاني في كتابه المعروف بـ ( المحاضرات ) قال ـ على ما يخطر ببالي ـ : سُئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان فقال : إنَّه خارجي ، معتزلي ، ناصبي ، حروري ، جبري ، رافضي ، يشتم علي بن الخطّاب ، وعمر بن أبي قحافة ، وعثمان بن أبي طالب ، وأبا بكر بن عفّان ، ويشتم الحجّاج الَّذي هدم الكوفة على أبي سفيان ، وحارب الحسين بن معاوية يوم القطايف . أي يوم الطف أو يوم الطائف ! !
فقال له جعفر بن سليمان : قاتلك الله ، ما أدري على أي شيء أحسدك ، أعلى علمك بالأنساب أم بالأديان أم بالمقالات ؟(8) .
____________
وقيل : إنَّ الاجدع وأصحابه ادعوا بأنَّ الائمة الهة ! وأنَ أولاد الحسن والحسين عليهما السلام أنبياء الله واحبائه ! وأحلوا المحارم ، وتركوا الصلاة والصِّيام والحج ، وغير ذلك .
ولمّا بلغ الامام الصادق عليه السلام مقالته ومقالة اصحابه لعنه ولعن اصحابه ، وتبرأ منه ومنهم ، بل وأباح دمه وأمواله هو وجماعة اُخرى من المشعوذين ، واصحاب البدع والكفريات .
راجع : فرق الشِّيعة : 42 ، التبصير :
111 ، الملل والنحل 1 : 179 ، الشِّيعة بين الاشاعرة والمعتزلة : 54 ، مروج الذهب 3
: 220 ، مقالات الاسلاميين 1 : 133.
ومنهم من يدَّعي بأنَّ الله تعالى قد فوَض أمر تدبير الخلق لرسول الله صلّى الله عليه وآله وأنًه فوَض ذلك الامر لعلي عليه السَلام ! !
بل وتُنسب اليهم الكثير من الضلالات المخرجة لهم عن دين الاسلام بغير نقاش .
أنظر : الشِّيعة بين الاشاعرة والمعتزلة : 54 ، تأريخ المذاهب الاسلامية : 40 /53 ، الحور العين : 155 ، البحر الزخّار : 25 . .
(3) وقيل العليائية أو العلباوية ، والظاهر أن الاخير هو الاصح ، وهو الموافق لما ذكره الشهرستاني في ملله وقال : بأنَهم من أتباع العلباء بن دراع الدوسي أو الاسديَ .
ويذهب أصحاب هذه الفرقة الضالة ـ على
ماذُكرـ إلى أنَّ علي بن أبي طالب عليه السلام ربي ـ استغفر الله العظيم ـ وأنَّه
ظهر بالعلوية الهاشمية ، وأظهر أنه عبده ، وأظهر وليه من عنده ورسوله بالمحمدية ،
فوافقوا أصحاب أبي الخطّاب ـ لعنه الله ـ في اربعة اشخاص : علي وفاطمة والحسن
والحسين عليهم السلام ، وأن مضي الاشخاص الثلاثة ـ فاطمة والحسن والحسين عليهم
السلام ـ تلبيس ، والحقيقة شخص محمد صلى الله عليه وآله ، لانَه أوَّل هذه الاشخاص
في الامامة ، وأنكروا ايضاً شخص محمد صلّى الله عليه وآله وزعموا أنَّه عبد لعلي
عليه السلام ! ! . . . الى اخر سخافاتهم وكفرياتهم .
راجع : رجال الكشي : 399 ، مقباس
الهداية 2 : 362 ، الملل والنحل 1 : 175 .
اُنظر : مقباس الهداية 2 : 361.
أنظر : فرق الشِّيعة : 43 ، رجال الكشي
2 : 593|549 ، مقالات الاسلاميين : 12 . .
المبارك ـ ثم خالفوهم ، حيث قالوا بأنَّ الامامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لا تكون إلاّ في سبعة أئمة هم : علي بن أبي طالب ، وهو إمام رسول ، والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمَد بن علي وجعفر بن محمد بن اسماعيل ، وهو عندهم الامام القائم المهدي ، وهو رسول .
وزعم اولئك ـ على قول النوبختي وغيره ـ أن رسالة النبي صلّى الله عليه وآله قد انقطعت يوم غدير خم ، وانتقلت إلى علي عليه السلام ! ! وكذا حال اللاحقين عند وفاة السابقين لهم .
ثم أنَّ أصحاب هذه الفرقة يذهبون ـ على ما قيل عنهم ـ الى أنَ الفرائض رموز واشارات ، وأمر بالاعتصام بالغائب المفقود ، وأباحوا جميع الملذات والمنكرات ، واستحلُوا استعراض الناس بالسيف ، وغير ذلك مما ينسب اليهم من الضلالات . .
واما ابن الجوزي فقد ذكر في كتابه المعروف بـ ( تلبيس ابليس ) : أن للمؤرَخين في سبب تسميتهم بهذا قولان : أحدهما : أن رجلاً من ناحية خوزستان قدم سواد الكوفة فاظهر الزهد ودعا الى إمام من أهل بيت الرسول صلوات الله عليه وعليهم ، ونزل على رجل يُقال له ( كرميتة ) لقِّب بهذه عينيه ، وهو بالنبطية حاد العين ، فاخذه أمير تلك الناحية فحبسه وترك مفتاح البيت تحت رأسه ونام ، فرقَّت له جارية فاخذت المفتاح ففتحت البيت وأخرجته وردت المفتاح إلى مكانه ، فلمّا طُلب ولم يوجد شاع الخبر وزاد افتتان الناس به ، فتوجه من هناك إلى الشام .
وأمّا وجه تسميته بذلك : فأنَه أُسمي أول الامر بـ ( كرميتة ) أي اسم الرجل الذي كان نازلاً عنده ، ثم خُفَف فقيل ( قرمط ) ثم توارث مكانه أهله وأولاده .
وقيل : أنما عُرف حمدان هذا بقرمط من أجل قصر قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه ، وكان يقال له : صاحب الخال ، والمدثر ، والمطوق .
وكان ابتداء أمره في سنة ( 264 هـ ) وحيث كان ظهوره بسواد الكوفة ، واشتهر مذهبه بالعراق .
وللمؤرِّخين وكتّاب الفرق اراء اُخرى في نشأتهم وتسمية روّادهم الاوائل لا يسعنا هناك التعرًّض لها ، محيلين القارئ الكريم في ذلك إلى المصادر المختصة بهذا الباب .
راجع : فرق الشيعة : 72 ، الفصول المختارة : 251 ، الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة : 84 ، الفرق بين الفرق : 22 ، الملل والنحل 1 : 167و191 ، تأريخ الطبري 10 : 23، الكامل في التاريخ 7 : 444 ، تلبيس ابليس : 110 .
(7) لقد كان موقف الائمة من أهل البيت عليهم السلام حاداً وقطعياً في رد وتكفير الغلاة ، بل والبراءة منهم ، ونفي وجود أي صلة لهم بهم .
فهذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول : « بُني الكفر على أربعة دعائم : الفسق ، والغلو ، والشك ، والشبهة » .
وأمّا الامام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام فقد قال : « أدنى ما يخرج به الرجل من الايمان أنْ يجلس إلى غال فيستمع إلى حديثه ويصدقه على قوله ، إن أبي حدثني عن أبيه عن جدِّه عليهم السلام : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : صنفان من أُمتي لا نصيب لهما في الاسلام : الغلاة ، والقدرية » .
وقال عليه السلام مخاطباً أحد أصحابه : « أيا مرازم ، قُل لهم ( أي للغالية ) توبوا إلى الله تعالى ، فانًكم فسّاق ، كفّار ، مشركون » .
وقال عليه السلام مشيراً إلى نفي صلة اولئك الغلاة باهل البيت عليهم السلام : « لعن الله المغيرة بن سعيد ، ولعن الله يهودية كان يختلف اليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق ، إنَّ المغيرة كذب على أبي فسلبه الله الايمان ، وإن قوماً كذبوا عليّ ، ما لهم أذاقهم الله حر الحديد . . . أبرأ الله مما قال في الاجدع البرّاد عبد بني أسد أبو الخطّاب لعنه الله . . . اًشهدكم : إني امرو ولدني رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وما معي براءة من الله ، وإنْ أطعته رحمني ، لانْ عصيته عذبني » .
وقال مخاطباً أحد إلى الغلاة ( وهو بشار الشعيري ) : « أخرج عني لعنك الله » .
وأمّا الامام الرضا عليه السلام فقد
قال عنهم : « كان بيان بن سمعان يكذب على علي بن الحسين عليه السلام ، فاذاقه الله
تعالى حرَّ الحديد ، وكان اَلمغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر عليه السلام ، فاذاقه
الله تعالى حر الحديد ، وكان محمَد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى عليه السلام
فأذاقه الله تعالى حرَّ الحديد ، وكان أبو الخطّاب يكذب على أبي عبدالله عليه
السلام فم ذاقه الله تعالى حر الحديدا » .
بل وترى الائمة عليهم السلام يحذِّرون شيعتهم من أحاديث كان ينتحلها اولئك الغلاة على ألسِنة الائمة عليهم السلام ، في محاولة منهم ـ لعنهم الله تعالى ـ لكسب الانصار والمؤيدين لهم ، فقد روي عن الامام الصادق عليه السلام قوله محذَراً الشِّيعة من الوقوع في حبائلهم : « لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنَّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة ، فان المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دس في كتب اصحاب أبي أحاديث لم يُحدِّث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا تعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله» .
وقال عليه السلام ايضاً : « كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المتسترون باصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ، ويسندها إلى أبي ، ثم يدفعها إلى اصحابه فيأمرهم أنْ يُثبتوها في الشيعة ، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذلك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم » .
واذا كان ذلك ديدن أئمتنا عليهم التحية والسلام ، فان ذلك بلا شك منهج أتباعهم وشيعتهم ، وتجد ذلك واضحاً في مؤلفات أصحابنا رحمهم الله تعالى برحمته الواسعة ، المتخصصة بهذا الموضوع ، فهم يحكمون عليهم بلا ترديد بالضلال والكفر ، ومن ذلك قول شيخنا المفيد رحمه الله تعالى عنهم : وهم ضلال كفار ، حَكَمَ فيهم أمير المؤمنين عليه السلام بالقتل والتحريق بالنار ، وقضت عليهم الائمة عليهم السلام بالاكفار والخروج عن الاسلام .
واما النوبختي فقد قال عنهم بعد أنْ استعرض فرقهم : فهذه فرق أهل الغلو ممن انتحل التشيع ، والى الخرميدنية ، والمزدكية ، والزنديقية ، والدهرية مرجعهم جميعاً ، لعنهم الله تعالى.
وغير ذلك مما يجده القارئ الكريم عند البحث والمراجعة فراجع : فرق الشيعة : 41 ، أوائل المقالات : 238 ، الكافي 2 : 288|1 ( باب دعائم الكفر وشعبه ) ، الخصال 1 : 72|109 ، رجال الكشي : 224 و225 و 302 و 398 ، الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة : 51 وما بعدها .
(8) محاضرات الاُدباء 4 : 418 .